عفوا صديقي (ش.) على تطفلي...أريد فقط بالمناسبة أن أعبر عن شعور ينتابني منذ حوالي 10 سنوات، وهو أقوى من خيالي الواسع: تخيلت في شبابي بالخصوص، ومثلي مثل عديد الناس، أشياء كثيرة في السياسة، بل منها ما أصبح اليوم يدعوني إلى الابتسام وحتى الضحك من خيالات النفس، وفاتني تماما أن أتخيل أن فلولا من «اليسار» التونسي، الذي أدرك من خلال نضالاته ومعاناته معنى الديمقراطية، يصبحون يوما خصما لها، لا لشيء إلا لأن خصمهم السياسي منّت عليه الظروف والأقدار بوسيلة الديمقراطية (الانتخابية على الأقل) ليصل إلي الحكم وتصيبه العثرات أيضا بسببها.
في السنوات 1980-1981 وما بعدها، أي أثناء تأسيس الاتجاه الإسلامي لم تكن الديمقراطية تخطر على بال تلك الحركة، ولا حتى بعض معانيها القديمة في التراث العربي والاسلامي. ولكن تقلبات التاريخ وخاصة مصادفاته (واليساريون غُفّل ما لم يقرؤوا حسابا للمصادفة في التاريخ) وبعض تطورات ثورة 17 ديسمبر -14 جانفي ومكاسبها (وأهمها حصل تشريعيا في ظل حكومة محمد الغنوشي تحت الضغط الثوري، باستنثاء الدستور) أكرهت الاسلاميين، وخاصة بسبب استفحال عامل الخوف من مآل يشبه المآل المصري، أكرهتهم على أن يتشبثوا بالديمقراطية الانتخابية والمؤسسية كخائف من الغرق يقبض على خشبة نجاة... ولكن ليس هذا الأهم!
ولذا أضيف لمن يحسن الانصات: من يأتي كرها إلى الديمقراطية قد يدوم على سلوكه ما لم يمنعه إكراه مضاد أقوى فيحوّل وجهته، يدوم أكثر من ذلك الذي تبناها عن «طيب خاطر» فكري أو إيديولوجي مسبق! ليست السياسة اختيارات ونوايا حسنة فقط، بل هي إكراهات تجبرك على اختيار خلاف ما تعتقده وخلاف ما كنت تتصوره (للتاريخ دهاؤه ومكره في النهاية).
صحيح أن من يتعلم الديمقراطية مثلي فيي الكتب وعلى مقاعد الدراسة مهيأ ذهنيا أكثر من غيره لركوب مخاطرها عندما تجِدُّ وعندما يقْدِم عليها بالتزام . ولكن الاستعداد وحسن الإرادة وحدهما غير كافيين لها وغير وافييْن بها البتة: الديمقراطية إكراه يحصل لنا في معمعة الصراع فيقبل به الخصوم وألد الأعداء إذا تعادلت القوى بينهم أو تقاربت. لا توجد ديمقراطية بالميلاد (بالدم) أو بالنسب، خلافا للنبالة وألقاب الشرف. وليست الديمقراطية مومسا قد يقبل عليها ذو الرغبة لحظةً لينفر منها حثيثا تاركا وراءه بعض البقايا.
الديمقراطية امتحان عسير وطويل الذيل، ودرجتها القصوى الأشد قسوة هو أن نحفظها عندما يستفيد منها لا خصومنا فقط، بل خصومها هي بالذات، السابقون أو الجدد أو القادمون. وإلا فلا فائدة في الحديث عنها حتى ولو بتلوين أشكالها أو بتزيين أشكال أخرى بديلة مفترضة افتراضا. إذا كانت هذه هي «البهيمقراطية» التي تقصدها، فشرف لي كبير أن أكون معها وخصوصا مع حظها البائس في تونس...لأن الديمقراطية هي الكثرة العددية فكيف ننبذها وندعي حب الحشود؟
وربما يكون البعض سعداء أن نسميها أيضا «البَرْويطَمُقراطية» من «ديمقراطية البرويطة» على نحو ما يسمون «ثورة البرويطة»! فلِمَ لا نسعدهم بالتسمية ونتركها لهم؟ ولكن هذا لا يُبْطل كونها ديمقراطية وحسب، ولا يبطل كون «البرويطة» بكل معانيها كانت في أصل ثورة فتحت القرن الواحد والعشرين... عندما يضرب زلزال قوي طبقات جيولوجية ممتدة المحيط، فغالبا ما يدوم الفعل ورد الفعل بكل قلاقله ومآسيه...كذا هي الثورة... عقودا طويلة من السنين قادمة على المنطقة العربية لن يهدأ فيها الفعل وردّ الفعل. وليس هذا استنثاء عربيا... كل الثورات المعروفة كانت هكذا من حيث ميكانزيمها العام…
وتواصلت المحاورة مع الصديق اليساري (ش) فعقب على كلامي السابق، فعلقت مجددا بما يلي، فصبرا منكم على القراءة إذا رغبتم :
...إني متفق معك بالكامل بخصوص « الانتقال الديمقراطي » الذي فُرض علينا بديلا عن « الانتقال الاجتماعي الثوري ». وفيما يخصني عبرت عن ذلك مرارا وتكرارا حتى بنقد جائزة نوبل، ووقوف الكونغرس المهيب مصفقا للانتقال الديمقراطي في تونس، وهو الانتقال الذي رأوا فيه استبعادا لشبح ثورة اجتماعية شاملة قد تمس ضفاف المتوسط كله.
ولكن كيف نتعامل مع الأمر الواقع المفروض؟ يجب الدفاع عن الديمقراطية ولو «اسما» و«شكلا» لأنه المنطلق لحيازتها والتقدم بها إلى أفق أرحب اجتماعيا واقتصاديا وثقافيا عوض أن نعود إلى المربع الأول ونعيد النضال من أجل كسب «المبادئ الشكلية» التي فقدناها للتوّ، ومن أجل «الاسم» و«الشعار» فقط، مثلما كان الحال قبل الثورة!
إن الطبيعة المفارقة والعنيدة والمتناقضة للديمقراطية هي ما يطرح علينا السؤال الحرج والعويص : كيف نكون معها وضدها في نفس الوقت وكيف نضمن حدّا أدنى من الرفاه الاجتماعي بحيث لا تعني الديمقراطية البؤس بالنسبة لغالبية الشعب؟ هذا هو الرهان الأكبر لأنصار الديمقراطية الاجتماعية (السوفياتية إن شئت)! الاجتماعي يلازم الديمقراطي، والعكس أيضا: هذا هو البديل الأكبر والأصعب وربما المستحيل في المستقبل القريب ...أما الاجتماعي مجردا («شايح» بالتونسي) فلا ندري مآله ومخاطره الكبرى... وقد يؤدي إلى نقيضه وهو «اللااجتماعي» antisocial كما في إيطاليا أو في ألمانيا قبل الحرب الثانية، ثم في غيرهما بعدها، مع فقدان الديمقراطية في الوقت نفسه... فلا نحصّل لا الشكل ولا المضمون…
كثيرة هي البلدان الأوروبية التي عرفت الحرية قبل أن تعرف الديمقراطية لأنها عرفت «الملوكية المطلقة» متأخرا بعد «الملوكية المعتدلة» في القرون الوسطى، ولم تعرف إلا قليلا جدا «الملوكية المستبدة» التي بدأت منها الحداثة الرأسمالية قبل حلول الديمقراطية. ولذا، فحتى عندما تفقد تلك الأمم الشكل الديمقراطي، فإنها تحفظ حريتها الأصلية...أما نحن فالحرية نفسها (أو الكرامة) لم نعرفها إلا بعد الثورة على «الحكم الاستبدادي»، أي مع البدء (نعم البدء) في تجربة ديمقراطية مهما كانت مضنية ومصحوبة بآفات اجتماعية اقتصادية جديدة... فإذا فقدنا الشكل الديمقراطي فقدنا آليا الحرية أو الكرامة…
أنظر صديقي: عصر الاصلاح التونسي من «عهد الأمان» حتى خير الدين كانت مضامنيه متناقضة (والبعض يقول «مشبوهة»)، ولكنه كان منطلقا شكليا أو «معنويا » للحركة الوطنية (منذ «تونس الفتاة» ثم «تونس الشهيدة») فقط لدلالته على التحرك وعلى تحريك السواكن، والحركة الوطنية هي أيضا لها مطباتها الكبري،،،، وهكذا دواليك... كل ذلك كان مسارا للتّأقلم ولتبيئة الديمقراطية تونسيا (أو محليا) بعنوان «التنظيمات» في ظل موزاين قوى تدور في صالح الدول الأوروبية الطامعة.
وأنظر، صديقي، كيف جلب الغازي نابوليون المطبعة معه إلى مصر بعد قرون من اختراعها، فأصابت الصدمة والدهشة أهالي القاهرة عندما شاهدوا لأول مرة «باسم الله الرحمن الرحيم» مطبوعة في نداء نابوليون لهم بالاصفطاف وراء فرنسا ضد الانجليز والعثمانيين...فقاوموه واستولوا على المطبعة أو استجلبوها، وبها سيقاومون أيضا العثمانيين ثم الأنجليز... وبها أيضا بدأت من قَبْلُ «نهضةُ مصر» مع محمد علي، الخ…
الديمقراطية إذن هي واحدة من الوسائل السانحة (أقول السانحة الآن ولا أقول الممكنة على الدوام) لبلوغ الحرية التي بدونها يفل سلاحنا من أجل العدالة الاجتماعية والمساواة بين الجنسين، وبين الجهات، على سبيل المثال لا الحصر…