-1- خلافا للفكر السياسي الذي يلاحظ الظواهر على مدى الحقب التاريخية الكبيرة ليقترح نظرية تفسيرية ونقدية تغيب منها الانفعالات وتضعف فيها التباينات بالرجوع إلى النزعات و« القوانين » العامة المتحكمة في البنيات، فإن الممارسة السياسية تلاحظ الظواهر نفسها على مستوى الظرف المباشر والقصير فتأخذ المواقف الحاسمة والمتبدلة وفقا للظرف ولموازين القوى.
لا تناقض بين الاثنين، أي بين الفكر والممارسة، ليس لأنهما متفقان كما يتوهم البعض؛ كلّا؛ بل لأنهما من طبيعتين مختلفتين أو من سجليّن مختلفين تماما، بحيث ليس ممكنا قياسهما بحدّ واحد أو بمعيار واحد، كأنْ يحسب أحدٌ مسافة تقطعها عربة بالمتر المكعب وحمولتها بالمتر البسيط.
وزد على ذلك أنّ الفكر والممارسة تحديدا لا يمكن استنتاج أحدهما من الآخر استنتاجا رياضيا أو آليا مباشرا وإنما بتوسطات كثيرة شديدة التعقيد (ومثال ذلك لا يمكن استنتاج محاكم التفتيش من تعاليم المسيح، ولا «الغولاغ» من نظرية تحرر الطبقة العاملة عند ماركس، ولا حتى من ديكتاتوريتها عند لينين، ومع ذلك فهذا لا يبرّئ البناءَ النظري من أيّ نقد ممكن). ولكن الناس عموما وبعض النخب خصوصا يعسفون عسفا عندما يردّون كلا الطرفين إلى الآخر فيقيّمون المواقف الظرفية الحاسمة «قياسا» على خلفيات أصحابها الإيديولوجية وعلى أنساق فكرية جاهزة. وهذا يُسمى ابتسارات أو أحكاما مسبقة أو حَوَلا بصريا يصيب العين الإيديولوجية.
-2- الاحراج الثاني aporie أسوقه في شكل قضية وسؤال :
أ- لي وجهة نظر مستقلة في قضية سياسية مّا، وأعتقد أنها وجهة نظر صحيحة، وهي في كل الحالات وجهة نظر ممكنة بين وجهات نظر عديدة.
ب - ولكن يحصل أن خصما سياسيا لي ينطلق من موقع مختلف تماما عن موقعي ومن رؤية مضادة لرؤيتي ليأخذ موقفا سياقيا مشابها أو قريبا من وجهة نظري تلك، فيكون موقفه صائبا من هذه الجهة كائنا ما كانت نواياه ومقاصده البعيدة (هذا إذا أمكنني إدراكها).
ج- السؤال: هل أضحّي بموقفي الصائب قربانا للخصومة ودفعا للخصم فينقلب الصواب إلى شعور بالذنب (ولم لا بالإثم)؟ - وأستطرد هنا لأضيف عنصرا أنتروبولوجيا وتحليليا نفسيا عاما : هذا ما سيزرع فيّ، بعد وقت، تقديس العدو أو الخصم باعتباره المنقذ من الذنب بواسطة القربان فأصير عبدا تابعا له بسبب عنادي ضده بعد أن كنت مستقلا بسبب مصادفة موقفي الظرفي موقفَه الظرفي- أم هل يجب عليّ أن أثبت على موقفي الأول حتى ولو بتدوير الزوايا الحادة أو بتحويل الخصم إلى صديق وإن ظرفيا؟ وبالطبع، يمكن تصريف الاحراج في عدة أسئلة أخرى مختلفة تماما وقد تكون أكثر وجاهة من سؤالي.
أكتفي بهذا الآن؛ وقد أعود إلى تفسير هذا الاحراج وبعض بدائله لأن الاقتصار على طرح السؤال بذلك الشكل فقط يصبح مغلوطا، ولكن لا مزية للمغلوط سوى حث الموقف السياسي على التمرين الحجاجي وعلى إحسان السجال وبالتالي بلوغ الاقناع بالروية وبإعمال الحس السليم لا بإثارة الغرائز والانفعالات العابرة ! التقليل من الانفعال هو جسر العبور من «الموقف» إلى «الفكر»... بداية الحل. فإلى اللقاء على الجسر…