حين تناول علاقتنا مع فرنسا، نلاحظ ضبابية في بعض المصطلحات المستعملة، من خلال إعتماد مفاهيم رائجة نمطية توصّف علاقتنا مع هذا البلد، ولأننا في مرحلة محاولات تحرر حقيقي من هذا العدو (*)، فإني أرى أنه يجب الإنتهاء من المفاهيم الفضفاضة غير المضبوطة، حيث سأبين في مايلي باختصار بعض الملاحظات المتعلقة بذلك :
1- إحتلال وليس إستعمارا
روجت أدوات تشكيل الأذهان في تونس (التعليم والإعلام والثقافة) منذ عقود أن علاقتنا بفرنسا علاقة إستعمار، والأرجح أن فرنسا هي التي زرعت هذا المصطلح، لأنه مفهوم يتوافق مع إدعاءات فرنسا التي تقول انها دخلت بلادنا وعموم البلدان التي أحتلتها في نطاق مهمة حضارية لإعمار مناطق خربة مهجورة متروكة، فتواجدها -بزعمها- يحمل أبعادا إيجابية، لذلك وصفته بالإعمار، ووصفت رعاياها الذين أتوا من وراء البحار لإستغلال خيراتنا، وصفتهم بالمعمرين، وروجت منظومة بورقيبة ذاتها هذا المصطلح.
في فكرة متصلة، يستبعد أن بورقيبة الواعي بخطورة المصطلحات لحد حرصه على إستعمال مصطلح دقيق مشين لوصف خصومه المقاومة، من خلال نعتهم قطاع طرق (فلاقة)، يخفى عليه الفرق بين مدلولي إستعمار وإحتلال.
إذا كنا لانلوم فرنسا عما تقوله عن نفسها، فإن اللوم يجب أن يوجه للبلد موضوع التواجد الفرنسي، إذ يفترض بكل تواجد أجنبي كرها أنه إحتلال، ويفترض من تونس أن لاتصف التواجد الفرنسي بغير مصطلح الإحتلال، وتعمل تبعا لذلك على تشكيل أذهان التونسيين (من خلال التعليم والإعلام والثقافة) بمحتويات بما يخلق مواقفا تتناسب مع محتل وليس مستعمرا، وهو مالم يقع للأسف.
للتذكير فإن المصطلحات أداة تستعمل لدى مصممي أدوات تشكيل الإذهان، لخلق الموقف لدى سكان البلد وتوجيههم حسب مصالحهم لا مصالح دول اخرى، إذ نفس الموجود المادي الموضوعي يمكن أن نطلق عليه مصطلحين متعارضين بحسب زاوية النظر والمصلحة، ولايعقل أن تكون زاوية نظرنا متوافقة مع زاوية من أحتلنا، لذلك فتوصيفنا للتواجد الفرنسي بمصطلح يتوافق مع توصيف فرنسا له، يعتبر أمرا غريبا وهجينا، والأغرب أن يتواصل إستعمال المصطلح كل هذا الوقت من دون إنكاره ورفضه.
فرنسا ذاتها تتبين جيدا الفرق بين مصطلحي إحتلال وإستعمار، لذلك تصف ماترفضه وتدينه بأنه إحتلال وليس إستعمارا، من ذلك أن الأدبيات السياسية الفرنسية التي تتحدث عن التواجد السوفياتي ببلدان أروروبا الشرقية، تقول عنه إنه إحتلال، وهي أيضا تصف التواجد الألماني بفرنسا فترة الحرب العالمية الثانية، أنه إحتلال، ولم تقل مرة عن التواجدين أنه إستعمار.
2- العلاقات التاريخية المزعومة (**)
يكثر وصف علاقتنا بفرنسا أنها علاقات تاريخية، وهو كلام يمهد به عادة ضمنيا لكون فرنسا لها أولية التعامل والأفضلية في علاقاتها معنا، أي أن العلاقات التاريخية المزعومة أصبحت تميزا وتمييزا إيجابيا لمصلحة فرنسا.
الخطير أن هذه الفرضية الفضفاضة، يقع إستعمالها في وثائق رسمية للدولة التونسية أو حتى الأحزاب مثل وثيقة طلب الاعتذار من فرنسا التي انجزها إئتلاف الكرامة، مما يوضح مدى تغلغل المصطلح والتسليم به لدى كل الأطياف الفكرية التونسية,
العلاقة التاريخية المعنية لم توجد إلا بفعل الاحتلال الفرنسي لتونس، فهي علاقة تاريخية نشأت بحكم علاقة تغلب وإرغام، وليس بسعي مقصود حر من تونس، وهو إذن معطى تاريخي في أساسه غير مشرف ولا يجب ان يعتمد عليه، ولا يجب أن يذكر إلا في موضع التبرؤ منه والذم لفرنسا.
إستتباعا لذلك، لا يفهم لماذا يذكر هذا العامل المعيب في توطئة اتفاقياتنا مع فرنسا، لماذا أساسا هذه المصادرة غير اللازمة في حرية تحديد مواقفنا من فرنسا مستقبلا، لأنها مصادرة تستدعى كأداة لإعاقة حرية قرارنا من خلال ضبطه في إطار تاريخي سابق يصبح ضمنيا ملزما.
3- الإرتباطات اللامادية مع فرنسا أخطر من الإرتباطات المادية معها
حينما نأخذ كنموذج محدد للفهم، طلب الاعتذار من فرنسا الذي قدمه ائتلاف الكرامة، أو مطالب البعض الآخر مراجعة اتفاقيات الاستقلال الداخلي مع فرنسا التي سرقت ثرواتنا، نلاحظ أن كل أولئك يركزون على الجانب المادي لعلاقة التبعية مع فرنسا، وهم ينطلقون من فرضية غير مبرهن عليها، مضمونها أن هذه العلاقة غير السوية الممتدة منذ أكثر من قرن ستنتهي بالاعتذار وربما بمراجعة إتفاقيات حول الثروات، وهذا قصور في فهم آلية التبعية وفاعليتها، لأن العلاقة مع فرنسا لا تثبتها وتكرسها فقط الاعتبارات المادية كالتواجد العسكري وسرقة الثروات والجلاء الزراعي، بل هناك إرتباطات غير مادية هي التي تمثل عامل جذب لفرنسا وهي أقوى من الارتباطات المادية، ويجب إذن العمل على هدم وتفكيك عوامل الارتباط اللامادي مع فرنسا كأهم عنصر في التخلص من التبعية.
الإرتباط اللامادي مع فرنسا، مستوى يشمل وسائلها للتحكم وتشكيل الأذهان وخلق الأتباع في تونس، وهي وسائل تشتغل في مستويات الربط والإلحاق اللغوي والثقافي والوجداني معها.
كان يفترض من استقلال صحيح وكامل أن يقع فك الارتباط في المستوى اللامادي أي هدم و إنهاء التبعية اللامادية التي تكرس وتديم الالحاق بفرنسا، ما وقع هو العكس حيث تم تعميق عمليات الربط هذه.
واجبنا الان ليس طلب الاعتذارمن فرنسا فقط على أهميته، وإنما هدم أدوات الربط اللامادي معها، أي التحرر الثقافي واللغوي والوجداني، وهذا الأمر له متطلبات، منها مثلا وليس حصرا:
- إيقاف عمليات التدريس المكثف للبرامج الفرنسية الموجه للتونسيين كما يحصل واقعا بالمدارس الخاصة التونسية (لمن لا يعرف فإنه يتم إرغام التونسيين في المدارس الخاصة، على دراسة برامج فرنسية بموافقة وزارة التربية) (***)، لأن ما يقع الان خطير ويعمل على إنشاء ربط وجداني للالاف من التونسيين منذ الصغر بفرنسا ويجعلهم ذهنيا تبعا لها، وينتهي بإنشاء جالية فرنسية ذات أصول تونسية بيننا، تكره ذاتها وترنو لفرنسا النموذج، وستكون أكثر خدمة لفرنسا من خدمة بلدها تونس حينما تصبح في موقع المسؤولية، أي أننا نرعى بيننا ونكون أجيالا من العملاء المحتملين.
- منع المراكز الثقافية الفرنسية الموجهة للتونسيين لأنها أدوات تشكيل ذهني وإلحاق للتونسيين بفرنسا.
- وجوب خروج تونس من منظمة الفرنكفونية التي تمثل إطارا للتابعية الفرنسية وهي كيان إحتلالي معاصر.
- منع تمويل فرنسا للجمعيات والإنتاجات الثقافية والتعليمية التونسية لأنها تمويلات تشجع الخط الفكري والثقافي الفرنسي، ويقصد منها تغليبا لنمط فكري وافد ومغالبة لثقافتنا.
- إيقاف تدريس اللغة الفرنسية كلغة تعليم وتركها كلغة اختيارية، لأن الفرنسية لغة متخلفة تعيق طلبتنا خاصة في الاختصاصات العلمية والتقنية حيث كل شيئ الآن بالإنقليزية.
الهوامش
(*) سأثبت في مقال آخر، من خلال إستعمال مقاربة منهجية، كيف أن فرنسا عدو لنا، وأنها حسب تلك المحددات أشد خطورة على تونس من "إسرائيل"
(**) سيقع تعميق البحث في هذه النقطة (مدخل العلاقات التاريخية كأداة لتكريس التبعية لفرنسا) في مقال منفصل.
(***) لفهم خطورة الموضوع، تصور أن مدرسة خاصة مثلا، تفتح أبوابها وتقول أنها ستدرس برامج حسب منظومة التعليم لطالبان، وان هناك أولياء موافقون، هل توافق وزارة التربية كما وافقت عل تدريس البرامج الفرنسية استجابة لطلب الأولياء..