استيقظت على رنّة هاتف صديقي الّذي اتّفقت معه للذّهاب سويّا إلى العاصمة، كنّا سنصطحب سعيدة و لكن في آخر لحظة تراجعت عن ذلك لأتركها تكمل نومها في مرآبها، ودّعت زوجتي و أنا أقرأ في عينيها بعض الخوف و التوجّس من غد يلفّه الغموض و تغطّي سماءه سحب من الضّباب الكثيف، استقلنا سيارة أجرة كانت على أهبة الخروج لأخلد إلى نوم عميق قطعته في مرّة أولى في استراحة تناولت فيها سريعة سوداء و نفثت سيجارة صفاء على عجل، ثمّ في مرّة ثانية مع صراخ السائق و هو يزمجر غاضبا و قد علق في طابور طويل من السيارات و الشاحنات و الحافلات أمام منفذ استخلاص مرناڨ، خمسة منافذ كانت مغلقة ليتركوا منفذين و يتشكّل طابوران تتوارى بدايتهما عن مرأى العين، تعالت أصوات المنبّهات المتقطّعة مع صراخ بعض الحناجر الممتعضة الغاضبة لننجح في النّهاية في المرور ، لم تستوقفنا دوريات الأمن الّتي كانت في حالة استنفار قصوى و نحن نرى عشرات الحافلات و سيّارات الأجرة و السيّارات الخاصّة المركونة على حافة الطّريق السيّارة.
لم أتفاجأ بما وقع، بل كنت أتوقّعه، تضييق ذكيّ و مرن لمنع توافد الحشود إلى العاصمة و هو ما لاحظته على مقربة من شارع الحرّية حيث كان التّواجد الأمني كثيفا غير أنّه كان مهنيّا و منضبطا و نجح في مهمّته بحرفيّة لافتة.
الاستجابة لتلك التظاهرة الاحتجاجية الرّافضة للانقلاب و لعودة الاستبداد كانت كبيرة ،آلاف من المواطنين تنادوا دفاعا عن الحرّية و الديمقراطية و الدستور و الجمهورية ليلتقوا في شارع الحرّية و يشربوا مجدّدا كؤوسا من نبيذ العزّة و الكرامة مع بعض حبّات التمر، كان الحضور نوعيا و متنوّعا ، احمرّت السّاحة بالأعلام الّتي ترفرف عاليا و تعالت الأصوات المندّدة بالانقلاب على الدستور و من هذا المنحى الاستبدادي الّذي تجرّ إليه البلاد و المطالبة بعودة المؤسّسات، كانت الشعارات حادّة و واضحة و تطالب اساسا بإسقاط الانقلاب بل و بعزل قيس سعيد المسؤول الرّئيس عمّا وصلت إليه الأوضاع.
كانت التّظاهرة سلميّة ، حضارية و راقية و ناجحة بما أرسلته من رسائل للدّاخل و الخارج، و حتّى لا تكون وظيفتها كرياح الشهيلي الّتي تنضّج الثمار لمتربّصين انتهازيين من هواة ركوب"البرادعي" من منظومة ما قبل 25 يونيو الّتي ساهمت بقدر كبير في وقوعنا في مطبّة الحال أو لمنظومة استبداد ما قبل 2011 المتحفّزة للانقضاض على فريسة ادمنت على نهش لحمها، فمن الضّروري أن يتنظّم هذا الحراك المواطني و يشكّل قيادة من رحمه تعبّر عن مطالبه المشروعة و تقطع مع الردّة الى الوراء أو وراء الوراء.
حان الوقت للقطع مع التّفاهة و المخاتلة و التهرّب من الاستحقاقات الحقيقية، من الديمقراطية الشكلانية المعلّبة ، من الصّراعات الهوويّة الزّائفة ،من معارك طواحين الهواء، و الاتّجاه مباشرة لمعالجة المشاكل الحارقة و هي بنيوية سياسية ، اجتماعية و اقتصادية.و كخطوة أولى لا بدّ من دحر هذا الانقلاب النّاعم ظاهرا و الغاشم مضمونا و عودة المؤسسات مع اصلاحها عاجلا و ليس آجلا.
قد تبدو الوضعية معقّدة و عصيّة على الحلّ ، لكن ليست عصيّة على التوّنسيين، فالمستحيل ليس تونسيا.