أعلن البنك المركزي انّ تقديراته فيما يتعلّق بالتضخّم ستكون مرتفعةً بنهاية العام الجاري. واذْ أنّ الشأن الاقتصادي من الأولويات في الأزمات الاجتماعية، خاصّة مع مُخلّفات جائحة كورونا، فإنّه لا يُمكن التعاطي معه بصفة فنيّة. ولذلك وجب الأخذ بالاعتبار المُعطيات المنهجية التّالية،
- إنّ هامش المناورة للسياسة النقدية التي يضعها البنك المركزي محدودةٌ، وبالتالي لا يمكن ان يُطلبَ منها المُعجزات وذلك بعُملة محلّية لم تكن يومًا "الفرنك السويسري"، وبمخزون من العُملة الأجنبية غير مستقرّ ومحدود ويخضع الى قُدرة الاقتصاد على التّصدير وكذلك قدرته على الارتقاء "بالمحتوى المحلي"، وقدرة القائمين على السياسات الصّناعية والتنموية على الرفع من مستوى النمو المُحتمل، وقدرة السّاسة على إرساء ديبلوماسية اقتصادية هادفة للشراكات الاقتصادية المستقرّة. وقد كان لزاما على الحُكومات الثلاثة السابقة -على الأقل- القيامُ بمهامّها، وهي عادية جدا، والعمل في نفس الوقت على البُعديْن القصير والمتوسط الأجل، تحسّبا ليوم كهذا مثل جل البلدان في العالم. وقد نُشرت العديدُ من مقالات الرأي في الشأن الاقتصادي طيلة السنوات الأخيرة والتي لم تُؤخذ بالاعتبار.
- إذا كان هناك ترابطٌ بين العجْزيْن العام والجاري (لا يسمح المجال لتحديد نوعيّة السببيّة بينهما)، فإنّ استهداف استقرار سعر الصرف الحقيقي يتعقّد أكثر بقدر ما فشلت ادارة المالية العمومية في تغطية هذا ووضع سياسات تجارية لتجاوز ذاك. فما بالك لو عمدت الحكومات المتعاقبة الى التغاضي على هذا الاشكال المعروف لدى الطلبة البدائيين في العلوم الاقتصادية حيث الألفاظ والمصطلحات لم يتمّ حتى استعمالُها فضلا عن تطبيقها. بل اخذت طريق الهروب الى الامام بالاعتماد على التداين السّهل والترويج الى انتصارات وهمية وكأنّها تروي قِصص نجاح في بلد آخر.
- الضغوط التضخمية كانت منتظرة في التقارير العالمية منذ مالا يقل عن ثلاثة أشهر وقد بدأت البنوك المركزية في العالم بالإعلان عن اجراءات في المنظور القريب ستحدّ من التسهيل الكمي (باول، الاحتياطي الفدرالي) وتقلّص من نسقه (لاغارد، البنك المركزي الأوروبي). وأسبابها تتلخص في عودة الحركية الاقتصادية في العالم بعد الركود العام الماضي، ارتفاع اسعار الطاقة المدعوم بارتفاع اسعار الغاز جرّاء اعادة مراكمة المخزون الاستراتيجي التعديلي، وعاصفة "ايدا" بأمريكا التي عطّلت 70٪ من الحقول غربي البلاد، مع تعطل مفاوضات روسيا وألمانيا لتمرير الغاز الى أوروبا… إضافةً الى ارتفاع أسعار المواد الاساسية والحبوب بأنواعها…. فمرور هذه الضغوط عبر التجارة العالمية سينضاف الى العوامل الداخلية من بُطْءٍ منتظر في الانتاج خلال الثلاثي المقبل، ومسالك توزيع غير سالكة، واستنفاذ المخزون الاستراتيجي من الحبوب والمواد الاساسية جرّاء التأخّر في تكوينها، كلّ ذلك سيبعثر العوامل ويجعل السيطرة على التضخّم صعبا بالالتجاء فقط الى السياسة النقدية التي تبدو تحوّلَ مصدرُ قرارها، أو جُزء منه، من البنك المركزي الى رئاسة الجمهورية حسب المرسوم الاخير.
- في ظل هذه التحوّلات العالمية والتي تتأثر بها الدّول المستوردة للطاقة والحبوب والزيوت النباتية والتي ليس لها من مخزون العُملة الأجنبية ما يكفي وليس لها أسواق مالية كبرى ولا قطاع وساطة مالية متطوّر ومتنوّع، وذات المديونية العالية : أي بالضبط تونس، لا يُمكن الحديثُ عن اقتصاد وحلول فنية ما دام اهتمام صُنّاع القرار يحوم حول تأزيم المؤسّسات السياسية والذهاب في طريق بعيدة عن المتطلبات الحياتية الفورية للشعب (مستهلكين ومستثمرين ووسطاء) في حالة انتظار لغد مجهول.
فلا تنفع تحاليل تأثير نسبة الفائدة على الاستثمار ولا البحث عن موارد لتغطية العجز ولا الحديث عن كفاءات وطنيّة ولا عن أعضاء حكومة لن يكون لها هامش مناورة طالما لم نرجع الى الرّشد ولم نرَ الواقعَ كما هو ولم نضع نصب أعيننا أنّ حلّ الأزمة الحالية العميقة انّما يكمن أساسا في الجانب المؤسّسي للبلاد كما كان الأمرُ في الأزمات الكُبرى والتي استلهم منها المتخصّصون في الاقتصاد المؤسّسي دروسا مهمّة وفي علم الاجتماع السياسي الربطَ البيّن بين التنمية من جهة ومسار الدّمقرطة من جهة أخرى، إذا مازالت الديموقراطية التي تؤسّس لاستقلالية المؤسّسات كشرط لازم وغير كاف لحسن آدائها وتُطلق حريّة المبادرة وتحمي الحقوق الفكرية وتضمن حقوق الملكية، وتُرسي الشفافية والمراقبة كثقافة معاملة، مُهمّةً في الأذهان.