كم هي كثيرة الإرهاصات التي بعث بها المنقلب، وكانت تدعو الهيئة إلى الإصداع بمواقف تضيق بها أحكام اختصاصها وتتسع لها رسالتها والغاية التي أحدثت لأجلها. مواقف "تفسيرية ذاتية" شبيهة بالهرمنيطيقة، تتنزل من علٍ كجلمود قانوني حطه صاحبه من علٍ فهشم به المنهج التقليدي الاستنباطي وانحرف عن القياس القانوني.
تعامل بحقل اصطلاحي لا يتقنه إلا متسكع بين البهارج اللفظية بعد أن فقد أدنى درجات الاحترام، بمجاز يستقي صورا من الحذاء لينتعل الدستور تارة ولتضيق به أضلاعه إذ يؤكد مرارا أنه وضع على مقاس من انتخبهم التونسيون بعد الثورة ، والحال أنه حرر بشجرة خضراء من أقلام تونس الخضراء، وبمداد بحرها ودم أبنائها.
ويتمادى المشهد الألسني في الإزدراء بمفردات بيطرية تربّع عليها حمار كالش إلتهم الدستور، وسرعان ما التقم مؤسساته الواحدة تلو الأخرى ليلغي تلك التي تراقب دستورية مشاريع القوانين.
صنيع بشّر به عدم الإذعان لقرارات الهيئة، وارتقي لوصف إجرامي كشأن دخول محل البطاطا بالخلع بقضيب حديدي (راشكلو)، وانتهى كامرأة أبي لهب، يحمل الحطب لأتباعه فيلقون فيه الدستور، الرمز المجيد للربيع العربي.
وقديما فعلها البعض بسنمّار، وهكذا تتمادى سنة التعالي لتنال من دستور الشعب، بافتراض إرادة شعبية وهمية موازية تنتصب فوضويا شارفت على الهذيان: إرادة التهليل والمنبهات الجماعية التي ألفناها في حفلات الزفاف الشعبية وخاصة في مواكب الختان. ولعله بشارة بالاحتفال ... بختان الفكر الانقلابي.
لذلك يخرج الحليم والمتزن عن هدوئه وسكينته. كتب الأستاذ عياض بن عاشور مدفوعا بالرد على درجة الإسفاف المقيتة وتدني أخلاقيات النقاش وإيطيقياته ألى قاع القاع ، بان الاحتقار درجة من درجات الفضيلةLe mépris est une vertu
وكذلك شأن التعالي على المتعالين والتكبر على المتكبرين. هو في حضارتنا وأصولها درجة من درجات العبادة.
الذين ألغى الانقلابي هيئتهم بنص استثنائي عينتهم مؤسسات الدولة ففيهم أسمى القضاة وفيهم أساتذة جامعيون بالدقة العلمية للدرجة. كم كنا نأمل أن يرتقي المنقلب إليها، وما ذلك عليه بعزيز، وقد تحِين اللحظة التاريخية عندما يقترب مذنّب "هالي" مجددا من كوكب الأرض أو حتى من أي كوكب آخر، شريطة أن ينبري من توه في طلب العلم والجد فيه، والإقلاع عن ارتياد المقاهي وهو جدير بذلك، سيما وأنه يتقد ذكاء وحيوية فكرية ، بالإضافة …إلى أنه في مقتبل العمر، لم يُحل على التقاعد إلا منذ بضع سنين.
لا نكران لمساهمة الهيئة ولو بالنزر القليل في إرساء قضاء دستوري يؤسس لنمط ديمقراطي في توازن السلط وإرساء دولة القانون، وتطهير القاعدة القانونية ممّا يعلق بها من شوائب الانحراف عن الدستور. هي كالبحر في أحشائه الدر كامن، فاسـألوا من أبحر فيها عن صدفاتها ونفائسها.
لا غرابة حينئذ في ألّا تراقب الهيئة دستورية المراسيم كما جاء في الإجراء الاستثنائي، لتولد وتبقى محصنة ، فمن شيم البحر ألا تدخله الفضلات وأن يلفظ الجيف على شواطئه.
لن تقفل أبواب هيئتنا.
ولن تنتهي إلا بإرساء المحكمة الدستورية. هذا ما أراده الشعب، وكتبه في الدستور، بعد أن طلَت ثورته جدران القمع بطلاء الحرية.
باقون نحن بمنطق القانون وبمنطق الدستور… ذلك الدستور المعجب …الدستور الوِجاء… الدستور المناعة…الدستور اللقاح ضد جائحة الانقلاب 19، وحركة الثاني والنصف من جويلية الحرام.
أما من أراد أن يلغ في ثقافة ما قبل العشرية الماضية وأن يدهس حقوقنا ومكتسباتنا، فشعار الشعب واضح … متى استعبدتم التونسيين وقد ولدهم دستورهم أحرارا؟