في علاقة لجان الثّورة بالحكم المحلّي أو كيف تُنسف السّيادة الوطنيّة؟

المتابع لإدارة شؤون الحكم على أرض الواقع، يلاحظ أنّ ما يريده رئيس الجمهورية من وراء إرساء الحكم المحلّي هو في الحقيقة، منذ الثّورة وحتّى ما قبلها، تكريس مغالطة كبرى، إذ أنّ الحكم المحلّي قد كان ممارسا، قائما بالذّات، يديره أطراف متستّرون، لا يعرفهم إلا القليل من المواطنين. وأنّ الحقيقة في علاقتها بالوضع الرّاهن تبدو، من خلال الأطراف الذين يلعبون دورا مفصليا في تسيير دواليب الشّؤون المحلّية، صادمة بكلّ المقاييس.

بحيث إن تمعّنّا جيّدا في الواقع نستشفّ أنّ الذين يديرون الحكم المحلّي هم رجال أمن وعسكريون متقاعدون يستعينون عادة بمواطنين في إنجاز ما يصبون إليه، غير واعون بالرّهانات والتّحدّيات الحقيقيّة التي تطمح إليها تونس الثّورة. كما أن لجان الثّورة التي ما فتئ يثنى عليها رئيس الجمهورية قد تشكّلت من خلالها، في خضمّ اندلاع الثّورة، النّواة الأولى للحكم المحلّي، الذي تبلور على أنقاض حلّ التّجمّع الدّستوري الديمقراطي آنذاك. وللتّذكير فإنّ مصطلح لجان الثّورة قد تأسّس أثناء الثّورة الفرنسية في 1789بمعيّة منظّرها دانتونDanton ، حرصا منه على الدّفاع عن الثّورة وتحصينها، وهو ما يبيّن في هكذا السّياق بأنّ تلك اللّجان لا علاقة لها بالثّورة التّونسية.

ودعما للدّلالة المزيّفة لواقع مبتزّ، فإنّ لجان الثّورة، التي يتحدّث عنها رئيس الجمهورية، هي لجان إرهابية قد تكوّنت من رحم بعض الشُّعب التجمّعية، وهي تتركّب من ميلشيات غريزية عنيفة كانت تمثّل الحزام الأمني للحزب، وهي التي ساهمت ليلة هروب الرّئيس المخلوع في حرق المؤسّسات الحيوية للدّولة، والتي نراها اليوم تقود المظاهرات العنصرية العنيفة المتعصّبة المساندة له.

تركيبة الحكم المحلّي

وكما أشرت سلفا، فإنّ رجال ونساء الحكم المحلّي يشتغلون، بالتّوازي مع منظومة الحكم الشّرعية، في تستّر تامّ بحيويّة عالية، وهم جزء من إدارة الدّولة العميقة1 وضمان ديمومتها. بحيث أنّ الأطراف التي أسّست للحكم المحلّي عادة ما تتكوّن من عناصر أمنية وعسكرية تنسّق مع متقاعدين منها ورجال أعمال فاسدين مكلّفون بتمويل الفاعلين فيه، وميليشيات تتقاضى أجورا من هؤلاء الفاسدين الذين قد نهبوا ثروات البلاد وعبثوا بالشّعب التونسي، الذي لا علم له حتّى بوجودها داخل أحيائه وقراه ومدنه ومؤسّسات الدّولة. وإنّ استقطاب عناصر الميلشيات، عادة ما تكون في أغلب الأحيان، ترتكز على إغراء العطّار وزوجته وأبنائه وصاحب مقهى الحيّ وصاحب المطعم وخرّيجي الجامعة المعطّلين عن العمل والتّلميذ الفاشل المتخلّي عن دراستة، وغيرهم من ضحايا الفساد الاواعون بخطورته، دافعين إيّاهم للانخراط في نفق منظومة الفساد، ملتزمين لهم بتوفير مزايا مادية ومعنوية وتقديم وعودا لهم، غالبا ما تكون وهمية كاذبة.

وقد بات واضحا بأنّ هكذا العصابات، التي لعبت دورا جوهريا في شيطنة الأحزاب ذو التّوجّه الإسلامي، قد ظهرت من جديد ليس فقط من خلال التّظاهرات الدّاعمة للانقلابيين، وإنّما من خلال التّصدّي السّافر للشّرعية ومنع المدّ الشّعبي المتصاعد من التّعبير عن رفضه للاِنقلاب المحاك من أعداء تونس الدّيمقراطية داخليا وخارجيا.

لجان الثّورة والانتخابات التّشريعيّة والرّئاسيّة والبلديّة

لكلّ من يحمل رسالة حبّ وإخلاص لتونس، ويناضل بسلطة العلم والمعرفة من أجل تقدّمها وتطوّرها على أسس صحيحة بمنأى عن التّجاذبات المغرضة، يدرك أنّ هكذا المنظومة للحكم المحلّي، المخرِّب للذّكاء التّونسي السّاطع، لا تسعى للاعتراف بأهمّيته وتفعيله على أرض الواقع قصد التّنمية الشّاملة العادلة، وإنّما همّها الوحيد هو عرقلة كلّ عمل جدّي يستمدّ قوّته من وعي وطنيّ تحرّري مستقلّ، غايته إنقاذ تونس من دائرات الفساد والجهل والتّخلّف والانحطاط والتّبعيّة، التي ما انفكّ يكرّسها الحكم المحلّي الموازي، رديف الحكم المركزيّ الفاسد، خارج أطر دولة القانون والمؤسّسات المشروعة. كما أنّه يبدو جليا أنّ كشف بشاعة هكذا الحقيقة المريبة تستند إلى عقيدة أمنية-عسكرية مازالت تؤمن بالتسلّط والسّطو والاستبداد، التي كرّسها الاستعمار الغاشم وجعل منها إيديولوجية للمؤسّستين الوطنيتين، بل نمط حكم أديرت به دواليب الدّولة طيلة أكثر من ستّين عاما.

وحيث يجدر القول، في هذا السّياق، بأن إجراء الانتخابات التشريعيّة والرّئاسيّة والبلديّة وما أفرزته من نتائج نهائيّة لن تكون عن منأى من تأثيرات عصابات الحكم المحلّي المتستّرة، التي لعبت دورا محوريا ليس فقط في انتقاء الممثّلين لها على كلّ مستويات الانتخابات، وإنّما هكذا الانتقاء كانت تنسج خيوطه سرّا، ويخضع أحيانا لعلاقات قرابة مع أمنيين ورجال أعمال فاسدين نافذين. كما أنّ الملفت للانتباه أنّ تسيير الحكم المحلّي يديره رجال أمن عبر تشبيك علاقات متينة مع هكذا رجال أعمال فاسدين وقواعدهم الانتخابيّة الفاسدة. ولا شكّ أنّ نشاط عناصر البوليس المتقاعد وتوجيههم للحكم المحلّي يتجلّى اليوم بأكثر وضوح، طالما أنّ النّقاباب البوليسيّة أصبحت تهيمن على الأمن في البلاد.

خطورة ازدواجيّة الحكم المحلّي

فالحكم المحلّي إذًا هو دائرة مغلقة لا ينفذ إليها إلاّ من أظهر ولاءً تامّا لرجل الأمن المتقاعد المحلّي ورجل الأعمال الفاسديْن، واللّصوص المخلصين لمنظومة الفساد. أما دور الميلشيات فهو يرتكز على مراقبة النّاشطين السّياسيين المناهضين للفساد واللّصوصية والعمالة، الذين يقاومون الفساد بالكلمة الحرّة المسئولة، ديدنهم الوحيد في ذلك، هو تعزيز سيادة تونس واستقلالية التّصرّف في ثرواتها والدّفاع عن كرامة شعبها.

والملفت أيضا أنّ هذه العصابات الخطيرة تسعى بكلّ ما أوتيت من قوّة لتدمير كلّ مناوئ لها من خلال استهدافه بوسائل عدّة كوضعه تحت التّنصّت الدّائم وإقحام أفراد عائلته في معركة ظّالمة قصد نسفها والتّحريض عليه والدّفع بأصدقائه ومعارفه عن الابتعاد عنه، وفرض مراقبة لصيقة عليه، وإلصاق التّهم والإشاعات الكاذبة ضدّه، وغير ذلك من الممارسات المشينة والتعدّي القذر على كرامته. وكاتب هذه السّطور يعي جيّدا ما يفيد كثيرا في هذا الشّأن.

لا بدّ هنا كذلك من التّنويه بأنّ رجال المؤسّستين العسكرية والأمنية جلّهم يتّسمون بالاستقامة ونظافة اليد وفي منأى عن سلوكيات ثلّة تائهة، اختارت لها، لضرب الدّولة، منعرجا خطيرا، أضرّت بالدّيمقراطية وحقوق الإنسان و الحرّيات العامّة والفردية محلّيا ووطنيا.

وإجمالا، فإنّ هذا الوضع للحكم المحلّي لا ينبئ بخير، طالما أن التّجربة ليست بجديدة إذا أُدرجت في سياق نشاط شعب الحزب المنحلّ، الذي يعتبر امتدادا لها، وما اتّسمت به من أعمال سلبية عطّلت كلّ أشكال التّنمية المحلّية والوطنية.

وأنّ هكذا الحكم المحلّيّ الموازي، للحكم المحلّي المنتخب، يعتبر الحكم المحلّي الحقيقيّ، وذلك نتيجة أهمّية نفوذه المخادع في اختيار الأعضاء المناسبين له في الانتخابات المشار إليها أعلاه، الممثّلين إيّاه في مؤسّسات السّلطة المحلّية والمؤسّسات الوطنية المشروعة. وهو السّبب الرّئيسيّ الذي عطّل عجلة التّنمية وما فتئ يعمّق الفساد، محوّلا المواطنين إلى رهائن.

دستور2014التّأسيسي والتّنمية

وحين نتأمّل بعمق، في منظومتيْ الأمن والعسكر في الدّول المتقدّمة، نستنتج أنّهما وُضعتا من أجل خدمة مصالح المواطن وحمايته من كلّ أشكال الانتهاكات والظّلم، بل إنّهما يعكسان أهمّية الدّفاع عن فصل السّلط ودعم التّنمية وسيادة أوطانهم. وهو ما يحيلنا إلى أهمّية طبيعة العقيدة الأمنية والعسكريّة في بلادنا، التي تأسّست على منوالها البنية الذّهنية لممثّليهما من أمنيين وعسكريين. ولإدراك هذه الحقيقة المضيئة في تحديد الفرق بين مؤسستيْنا الأمنية والعسكرية ومثيلتيْهما في دول القانون والمؤسّسات ، لا بدّ من إعادة صياغة عقيدة أمنية-عسكرية جديدة لتونس تُبنى على أولية انتداب أصحاب الشّهائد العليا في المؤسّستين وخاصّة منها الأمنية، وذلك في كلّ فروعها المختلفة. إذ أنّ التربية العلمية والأخلاقية الصّحيحة للتّونسيّ، التي تستمدّ جذورها من قيم العدل والكرامة والتّضامن، التي أرساها الدّين الإسلاميّ الحنيف، هي المنصّة الوحيدة للحكم القادرة على إخراج البلاد من نفق الظّلام والفساد والتّبعية المقيتة.

وما يشدّ الانتباه في هذا الإطار هو ما نعيشه اليوم، بعد الانقلاب، من إفلات أمني ومحاكمات عسكرية للمدنيين الذين لا ترتكز إدانتهم إلاّ على حجج واهية، تتعلّق بنضالهم الصّادق ومعارضتهم للحكم الاستبدادي الذي بدأ يتبلور في الواقع من خلال الخطب الرّئاسية العنصريّة المتعصّبة ومشاهد القمع والترهيب والعنف المتزايدة يوما بعد يوم، التي تسعى إلى تقسيم الشّعب التونسيّ الأبيّ وإدخاله في حرب أهلية.

والجدير بالملاحظة أنّ دستور الجمهورية التونسية للثّورة في بابه السّابع، المعنون "السّلطة المحلّية" يتجلّى مناقضا، في هكذا السّياق، باعتباره آلية جعلها الانقلابيون دون جدوى، لطالما أن السلطة المحلّية يديرها، من خلف السّتار، رجال ونساء فاسدون عطّلوا دواليب الحكم الرّشيد، الذي بدونه ستبقى تونس تابعة، غير قادرة على التّعمّق في استرجاع استقلاليتها وسيادتها الوطنية المسلوبة.


-1- أنظر: في مفهوم الدّولة العميقة: تونس أنموذجا، الذي صدر بجريدة الفجر بتاريخ 28 جويلية 2017

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات