«القائمة الأولية للخونة في تونس»… التي أشهرها أنصار الرئيس قيس سعيّد في مظاهرتهم الأحد الماضي وسط العاصمة، تضمنت كلا من حركة «النهضة» والرئيس الأسبق منصف المرزوقي ونائبي البرلمان الصافي سعيد وعياض اللومي والسياسييْن أحمد نجيب الشابي وحمّة الهمامي والأستاذ الجامعي جوهر بن مبارك.
لا شيء يجمع بين هؤلاء، الذين كتبت أسماؤهم بخط اليد على ورقة ثبّتت على عمود كهربائي، سوى معارضتهم لسعيّد وخاصة انقلابه على الدستور في 25 يوليو/ تموز الماضي وإسرافه في ذلك عبر ما قرره في 22 أيلول/سبتمبر من استفراد بكل السلطات دون هيئات رقابية ولا إمكانية للطعن في أي من قراراته حتى تلك التي تتعارض مع أحكام الدستور الصادر عام 2014.
لا أدري كيف استقبل كل واحد من هؤلاء ما أقدم عليه من سبق لهم أن أحرقوا نسخة من الدستور في نفس المكان لكن أحدهم على الأقل، وهو جوهر بن مبارك، حمّل الرئيس «المسؤولية الكاملة والمباشرة عن أي اعتداء يطال سلامته الجسدية أو سلامة عائلته وسلامة أي مناضل ورد اسمه في قائمات التخوين والتحريض التي يروّجها أنصاره» معتبرا أن الأمور في تونس وصلت إلى «مراحل مخيفة لم نصلها من قبل على الإطلاق».
تهمة الخيانة تحديدا لم تتأخر في التردد بعد يوم واحد فقط من هذه المظاهرة، ولكن هذه المرة على لسان الرئيس نفسه الذي كال لمعارضيه وابلا من الشتائم من قبيل «خونة» و«حشرات» و«سرطان» «باعوا أوطانهم» وغير ذلك. إذن لم تأت تهمة الخيانة من أنصار الرئيس عبثا أو من من فراغ وإنما هي مستوحاة من الرئيس نفسه وخطبه المتشنجة المتكررة فأجواء الشحن والتباغض والكراهية والتخوين مستهجنة أصلا في أي حياة سياسية، ولكن أن تُرفع في يافطة في مظاهرة، وبالأسماء، وأن تأتي فوق ذلك نسجا على منوال الرئيس نفسه فكارثة حقيقية.
لم يكن غريبا كذلك أن ترى هذه «القائمة الأولية للخونة» في انتظار القائمة النهائية التي يفترض أن تضم أكثر بكثير من هؤلاء، إذا ما ألقيت أيضا نظرة على ما يكتبه التونسيون في موقع «فايسبوك» الذي يدمنون عليه وفيه يعبّر الجميع تقريبا عن آرائهم وبعضهم عن أحقاده وعقده.
طوال سنوات حكم الراحلين بورقيبة وبن علي كان كل صاحب رأي مخالف، يفلح في انتزاع التعبير عنه في هذا المنبر أو ذاك، داخليا أو خارجيا، يتعرض مباشرة إلى حملة صحافية منظمة من أقلام «قوات التدخل السريع» المعروف رموزها بالاسم والتي ارتضت أن تلعب دائما مثل هذا الدور، اقتناعا أو تزلفا لا يهم.
الآن، تغيّرت «قواعد الاشتباك» كثيرا مع هذا الرئيس فبمجرد ما تكتب رأيا مناهضا له تنهال عليك فورا التعليقات التي ندر ما تردّ على الحجة بالحجة أو الرأي بالرأي وإنما تسارع فورا إلى كيل الشتائم وبأكثر الألفاظ بذاءة وغالبا ما تكون من تحت الحزام. أما إذا كنت تونسيا مقيما بالخارج فستجد نوعية أخرى من السباب تبدأ بالبلد الذي تقيم فيه لتنتهي في الغالب بأن ُيطلب منك الصمت لأنك خارج بلاد لم يعد يعنيك أمرها، بل أنت خائن لها أصلا. المصيبة أنه حين يأخذك الفضول إلى معرفة بعض هؤلاء تتفاجأ أن من بينهم المعلم، والأستاذ، والموظف، والطبيب!!
هذه الأجواء دفعت بالكثيرين ممن يرغبون في التعبير عن آرائهم المعارضة لوادي غير ذي زرع الذي يأخذ إليه قيس سعيّد البلاد إلى حظر التعاليق على منشوراتهم في مواقع التواصل بعد أن بلغ انحطاطها مستوى لا يطاق.
لا شيء كسبه التونسيون بعد أكثر من عشر سنوات من الثورة سوى الحريات، وأساسا حرية الرأي والتعبير والصحافة، فماذا بقي لو صادرنا كل ذلك وعدنا لتكميم الأفواه وتجريم المختلفين مع السلطة وكأن هؤلاء المعارضين، الذين أتاحت لهم الثورة ما كانوا محرومين منه لعقود ولا أحد بإمكانه أن يمنّ به عليهم، ارتكبوا جريمة لا تغتفر مع أنهم لم يفعلوا سوى الإعراب عن وجهة نظر تخالف ما يسعى البعض إليه من عودة إلى الاستبداد و«الزعيم والمنقذ» الذين عادوا إلى الهتاف باسمه ورفع صوره يخالون سرابه ماء.
مؤلم القول إن مستوى الخطاب السياسي في تونس الذي انحدر إلى درجة مخيفة ليس غريبا عندما يوضع في سياق ما تعرفه البلاد منذ أكثر من عشر سنوات من تقهقر في كل الميادين، فعندما يتراجع الاقتصاد ومعيشة الناس والتعليم والصحة والإدارة ونظافة الشوارع والمعاملات والمرافق العامة والخدمات وآداب السياقة، وغيرها كثير، هل تتوقع أن يبقى السجال السياسي راقيا؟
كل ذلك حوّل البلاد إلى بيئة طاردة لأبنائها ويكفي إلقاء نظرة على عدد الكوادر المختلفة التي غادرته أو التي ما زالت تنتظر أول فرصة لها للهجرة.
أحد الأصدقاء العرب اتصل بي حائرا ليقول: يا رجل ما هذا الذي يجري عندكم… لقد كنا رافعين رأسنا بكم؟!!
أجبته: لعله آن الأوان أن تُنزله ليرتاح قليلا… حتى إشعار آخر.