أثار محتوى وطريقة اتصال محافظي البنوك المركزية اهتمامًا متزايدا لدى الفاعلين الاقتصاديين وذلك لأهمية الاقوال والخطابات المنشورة لها في الواقع الاقتصادي الحقيقي. وهكذا، خلال الثمانينيات والتسعينيات، كان دور اتصال البنك المركزي كأداة رئيسية لتوجيه التوقعات موضوع إجماع بين العديد من المنظرين والممارسين. فكان من الُمعتقد أنّ زيادة نوعيّة الاتصال من شأنها أن تحسّن فعاليّة السياسة النقدية، بحيث تتحول المسألة من كونها مصدر إزعاج إلى كونها أداة رئيسية. ولذلك، دعنا نتجوّل قليلا عبر أهمّ وجهات النظر الاقتصادية التي أفادت بأهمّ "القنوات انتقال الاتصال" (Transmission Channel) لمحافظي البنوك المركزية التي تؤثّر حتما في المتغيرات النقدية والواقعية، ثمّ نتطرّق الى أهم عناصر المحتوى الاتصالي حسب أفضل الممارسات.
- قبل التسعينيات، كانت الرؤية الممكنة لسياسة التواصل للبنوك المركزية أنها "مجالٌ مُشفّر"، ممّا يذكّرنا بالجدل الذي دار بين كينز وإرنست هارفي، نائب محافظ بنك إنجلترا في فترة ما بين الحربيْن، حيث ردّ هارفي، استجابةً لطلب كينز بشأن منطق الإعلان (أو عدمه) عن قرارات معينة، أنه "من الخطير أن نكون واضحِين للغاية ''.
ولكن بعد حوالي ربع قرن، أصبح هذا النوع من الاتصال المشفّر بمثابة ترسيخ لتوقعات الفاعلين الاقتصاديين وأنه يجب على محافظ البنك المركزي تعبئة قنوات متعددة "لتوجيه" الاقتصاد بأكمله. وقد أدت هذه التطورات خلال العشريّة الماضية إلى التركيز على أحد جوانب "شفافية السياسة النقدية" ألا وهو "التواصل" في ضوء استخدم بليندر لمصطلح "الثورة الصّامتة"، ذلك انّه تم إنشاء البنك المركزي الأوروبي عندما سادت موضوعات: الاستقلالية - الشفافية – التواصل. وفي هذا السياق، أُخِذتْ خطاباتُ محافظي البنوك المركزية على انّها "استراتيجية" بشكل متزايد بحيث باتت الرسائل المتضمّنة لخطاباتهم موضع تساؤل:
بارو-جوردن، 1983: تمّ التركيز على تأثير خطاب السياسة الاقتصادية على "التوقعات" العامة. وفي هذا الإطار، لا يمكن للحكومة ولا للبنك المركزي أن يمارسا سياسة مكافحة التضخم إلا إذا كانا ذات "مصداقية"، وإلاَّ فإنّهما ستواجهان ظاهرة "التناقض الزمني" (Time Inconsistency) التي طرحها كيدلاند وبريسكوت (1977)، والتي تعني في ابسط اوجهها التناقض بين التصاريح او بين التصريح والفعل، كما يمكن لمجموعات الضغط التأثير على القرارات الفنية بشأن السياسة النقدية، بحيث تؤدّي إلى خيارات تضخمية.
- شكّك باكوس ودريفيل (1985) في درجة الدقة التي يمكن أن تُعزى إلى إعلانات مكافحة التضخم، كما تبنى هذان المؤلِّفان منطقًا من حيث "نظرية اللعبة" (Game Theory) وأصَرّا على معيار السُّمعة (reputation criterion)، والتمييز بين السلطات "الصلبة" (hard nosed) و "الرخوة " (Wet) اعتمادًا على ما إذا كانت أكثر أو أقل تسامحًا مع التضخم الحكومي، ولذلك وجب إنشاء بنوك مركزية مستقلة عن السلطة السياسية لجعل السياسات المناهضة للتضخم أكثر مصداقية. وقد يطول التفصيل في الشروط الموضوعية لارساء استقلالية البنوك المركزية (...)
- السنوات 2000 : “إجماع" حول السياسة النقدية، على أساس محورين رئيسيين :
(1) هدف استقرار الاقتصاد الكلي (التضخم و/أو الإنتاج)، و
(2) ضمان استقلالية (وبالتالي مصداقية) البنوك المركزية (إيرمان وفراتشر، 2011). ولا يمكن منح المصداقية، فهي تُبنى بشكل دائم. لذلك من الضّروري لصانعي القرار في السياسة الاقتصادية، ولا سيما محافظي البنوك المركزية، تحديد "قواعد" (Rules) سلوك واضحة، بحيث يمكن تحديد الانحرافات في سلوكهم على الفور من قبل الفاعلين الاقتصاديين.
وامّا فيما يتعلّق بمحتوى اتصال البنك المركزي، فانّه لا يوجد اطارٌ أمثلُ ضمن أفضل الممارسات، لكن يمكن اختيار العناصر الثابتة التالية التي تتواءم مع الواقع التونسي :-
(1) فيما يتعلق بمحتوى اتصالات البنك المركزي:
(أ) هدف كمي اذا كان البنك المركزي مستقلاّ. فلا تصحّ للسياسة النقدية ان تكون متحفظة (Discretionary) ومستقلّة في نفس الوقت، لئلاّ تصعب متابعتها ويتعقّد تقييمُها وتُغلَّل بالتالي آفاقُ التوقعات (Expectations) النافذة للمتعاملين الاقتصاديين،
(ب) استراتيجية السياسة النقدية، اذْ لايمكن للبنك المركزي الاّ يُعلن عن استراتيجيته ولو في في خطوطها العريضة، فهذا يجعل الفاعلين الاقتصاديين في وضع المتأهّب لعدم التفاعل ايجابيا مع السياسية النقدية المُفاجئة.
(د) التقديرات (Forecats) الاقتصادية اي حول التضخم المستقبلي والنشاط الاقتصادي واتجاهات السياسة النقدية؛
(ج) المسار المستقبلي لسياسة لسعر الصرف في ضوء استراتيجية الصّرف التي على الحكومة رسمها.
(2) يتواصل البنك المركزي عموما على هامش اللقاءات الرسمية أو من خلال منشوراته أو من خلال تحديث البيانات في رابطه الرسمي واستكماله، أو ضمن مؤتمر صحفي عام يُعقد بعد اتخاذ قرارات السياسة النقدية، وأن يتجنّب :
(أ) التوجّه نحو اذاعات خاصّة دون اخرى حتى لا تكون رهينةً لها خاصّة أثناء الازمات أو المشاحنات المؤسسية أو تدهور آدائها،
(ب) الردود الممنهجة والحصرية لكل ما يُنشر وما يُقال حتي من قبل غير المتخصّصين. فكما اشرنا أعلاه، فانّ التواصل المهني وحسن الاداء والشفافية والمصداقية والاستقلالية، تُغنيه عن هذه الطريقة التي لن تتوقّف، ولكن عليه ان يتّجه للفاعلين الاقتصاديين بخطاب يفيدهم في بناء تصوّراتهم واستراتيجياتهم في السوق.