الجزء 1:
أنظر يا رفيقي ،
عندما تكتب " في تونس، لا أثق في إسلامي يكون وطنيّا" ثم تضيف "أتفق معك في محاور التقاء القوى الوطنية و التقدّمية" فهذا -بعد قبولك بوطنية الليبيراليين دون أي تشكيك مثلا- يعني التالي :
1-أنت اذن لا مانع عندك مثلا في أن يكون الليبيرالي وطنيا (ولن أتحدث عن القومي العربي واليساري هنا ) وفي أن تشترك معه في "محاور التقاء القوى الوطنية و التقدّمية" وأنا مثلا أعرف أن حزبك يقول بانتهاء المرحلة التاريخية التي يمكن أن تلعب فيها البورجوازية الوطنية دورا تقدميا في التاريخ بحيث ،لو كنت وفيا لأطروحات حزبك أصلا، ما كنت عددت الليبيرالي من صفوف الوطنيين التونسيين اصلا. ولكن دعنا من هذا وركّز معي ما يعنيه قولك الأوّل:
2-إما أنّ تونس هي استثناء في كل البلدان الاسلامية في العالم مما يجعل الاسلامي يمكن أن يكون وطنيا في كل تلك الدول باستثناء تونس ، وعليك عندها تفسير سبب هذا الاستثناء التونسي.
3-وإما أن الاسلاميين التونسيين هم الاستثناء من بين كلّ إسلاميي العالم الاسلامي بحيث هم وحدهم الذين لا يمكن الثقة في أن يكونوا وطنيين دون غيرهم وعليك عندها تفسير هذا الاستثناء الاسلاموي التونسي.
4- وإمّا أنّك أنت تمثل فكرة ضمن اليسار التونسي الذي يحمل 'نظرة استثنائية' عن الاسلاميين في بلدهم تونس دونا عن يسار كل العالم الاسلامي وعن اسلامييه فلا ترى امكان أن يكون الاسلامي التونسي تحديدا اسلاميا وطنيا مطلقا ، وفي هذه الحالة يجب التساؤل عن استثنائية هذا التمثّل اليساري التونسي نفسه وليس التساؤل لا عن خصوصية تونس ولا عن خصوصية الاسلاميين التونسيين.
أنظر يا رفيقي ،
1- لا يمكنك علميّا أبدا أن تثبت استثناء تونس ضمن العالم الاسلامي . فحتى وإن كانت لها خصوصية -وهذا صحيح- فهذا يتمتع بها كل بلد اسلامي مقارنة بغيره ضمن قاعدة علاقة الخاص بالعام التي تعطي خصوصية لكل بلد اسلامي داخل العالم الاسلامي دون أن يجعل ذلك الأمر من أي بلد استثنائيّا بما في ذلك تونس.
2-لا يمكنك أبدا أن تثبت استثناء الاسلاميين التونسيين ضمن الاسلاميين في العالم الاسلامي لأنهم أصلا فروع لتنظيمات اسلامية في ذلك العالم الاسلامي من الاخوان الى حزب التحرير الى السلفية،الخ.
3-يبقى الأمر الثالث : أنت فعلا تمثل وجهة نظر يسارية تونسية - و هي ليست استثنائية وليست حتى خاصة بتونس حسب رأيي- تجعلك لا ترى امكان أن يكون الاسلامي التونسي وطنيا مطلقا بينما تقبل -ظاهرا- بامكان ذلك في خصوص باقي الاسلاميين في باقي بلدان العالم الاسلامي ، ولكنني اشكّ صراحة في امكان أنك تفعل ذلك بشكل مبدئي. وأقولها لك بصراحة يسارية من صنف آخر:
أ- أنت في الأصل لك نظرة جوهرانية للدين عموما بوصفه 'وعيا زائفا' في 'الطبيعة و المجتمع و الفكر ' وبالتالي في السياسة بحيث لا يمكن أن يكون الدين السياسي الا 'تعبيرة طبقية' عن الاقطاع أو عن الكمبرادور و لا يمكن أن يعبّر عن غيرهما .
ب-أنت لك،اضافة الى ذلك، نظرة جوهرانية استثنائية للاسلام نفسه (وخاصة الاسلام السنّي تحديدا) تجعلك يمكن أن تقبل بإمكان وجد حركة يهودية، أو مسيحية أو بوذية أو هندوسية وطنية ( بل وحتى تقدّمية كحركة 'لاهوت التحرير') بل وأن تقبل بإمكان وجود حركة شيعية وطنية ( كأن تعتبر ايران وحزب الله وطنيين مثلا) ولكنك تميل جوهرانيا الى عدم قبول امكان ظهور حركة اسلامية سنية وطنية خاصة في بلدك تونس.
ت- أنت شديد التأثر الى حدّه الأقصى بلائكية الاتحاد السوفياتي الالحادية التي دفعت الى الأقصى باللائكية الفرنسية التي تاثر بها اليساريون والليبيراليون التونسيون (وغيرهم في مستعمرات فرنسا السابقة) بحيث توجد المشكلة فيك وليس في تونس و لا في الاسلاميين التونسيين الذين لهم مشاكلهم أيضا وهم بالمناسبة- حتى لا تتسرّع في الاستنتاج - إن كانوا وطنيين فستكون وطنيتهم من صنف خاصّ تحديدا.
ث-أنت يا رفيقي تكتفي أصلا بالتمييز العامّ بين الوطني و غير الوطني ( العميل أو التابع) و لا تستفيد حتى من تمييز لينين داخل النزعة الوطنية بين 'الوطنية الاصلاحية ' و ' الوطنية الثورية ' ولا تنتبه -كما لم ينتبه لينين نفسه - إلى امكان وجود تيار ثالث داخل النزعة الوطنية هو 'الوطنية المحافظة' التي يمكن أن يمثلها بعض الاسلاميين (وليس بالضرورة كلّهم طبعا).
ج- وإنّ نظرة اليساريين التونسيين مثلك و الليبيراليين التونسيين -الذين لا تمانع في اعتبارهم من الوطنيين - شديدي التأثر بالعلمانيتين الفرنسية و التركية هي ،جزئيّا وليس كلّيا، أحد أسباب عرقلة ظهور وتطوّر تيار اسلامي وطني واضح بسبب كون الليبيراليين و اليساريين التونسيين يتهمون كل اسلامي (حتى لو أعلن تقدّميته وليس فقط وطنيته) بأنه مجرّد 'خوانجي' متستّر لا غير. وهذا واحد من أسباب -ولكن ليس الوحيد و لا حتى الأهم كما سنبين ذلك في الخاتمة وهذا حتى لا يجد الاسلاميون عكاز تبرير - لعرقلة تطور فكر وتنظيم اسلامي وطني تقدّمي بسبب الصدّ النسقي المنهجي لكل من تشتم عليه رائحة الاسلام السياسي من قبل الليبيراليين و اليساريين التونسيين الذين يرفضون -كما تفعل- أي احتمال لظهور نزعة اسلامية وطنية اصلا ناهيك عن النزعة الاسلامية الاصلاحية التقدّمية أو الثورية.
الجزء - 2:
عناصر فرضية سوسيولوجية لفهم وتفسير ضعف الحركة الاسلامية الوطنية التقدّمية في تونس :
هنالك جملة من الأسباب الكبرى التي يمكن أن تساعد على فهم هذه الظاهرة قد تكون أهمّها:
- الحصول على الاستقلال السياسي لأن تطور الحركة الوطنية الاسلامية يظهر أكثر في حالات الاستعمار المباشر كما تدل على ذلك تجارب عبدالقادر الجزائري و الحركة المهدية في السودان وعمر المختار السنوسي في ليبيا و ثورة العشرين في العراق وأمين الحسيني في فلسطين وكما تدل على ذلك حركة حماس ثم الجهاد الاسلامي في فلسطين وحزب الله في لبنان.
- خصوصية -ولكن ليس استثنائية- الاسلام السني المهيمن تاريخيا مقارنة بخصوصية- وليس استثنائية- الاسلام الشيعي الذي كان عبر التاريخ الأعم في المعارضة كما تدل على ذلك ميولات أغلب الحركات الثورية في الاسلام.
- خصوصية الاصلاح الديني التونسي منذ القرن 19 وبدايات القرن العشرين الذي كان ذا ميل سني/حنفي مذهبيا وذا ميل ليبيرالي سياسيا وتم تبنيه كثيرا من قبل الحركة الوطنية مما جعل النزعة الاسلامية الرسمية التونسية نفسها تحررية تأثرا بقبادو وخيرالدين ثم بالثعالبي وطاهر الحداد وغيرهم.
- خصوصية التجربة البورقيبية التي تبنت نوعا من العلمنة الدينية و السياسية الرسمية التي جعلت من الأفكار الاسلامية الوطنية الاصلاحية و التقدمية أقرب الى السلطة منها الى المعارضة الاسلامية التي طغى عليها الطابع التقليدي المحافظ.
- قوة تلك المعارضة الاسلامية التقليدية (من الجماعة الاسلامية الى الاتجاه الاسلامي الى النهضة) في وقت بداية تأزم البورقيبية وضعف تجربة 'الاسلاميين التقدميين' التونسيين السياسية وتركيزهم على 'المسألة الثقافية'.
- استثمار بن علي لقسم من رموز 'الاسلاميين التقدميين' في سياسة 'تجفيف المنابع' للاتجاه الاسلامي واكتفاء قسم آخر منهم بمهام تعليمية أو صحفية واضطرار آخرين منهم الى الانتماء الى أحزاب ديمقراطية مما جعلهم يتحللون تنظيميا ويكفون عن تشكيل تيار ثقافي سياسي مستقل ومتمايز.
- قوة الحركة القومية العربية (خاصة الناصرية وفروعها ) في تونس الثمانينات وما بعدها في الحركة التلمذية و الطلابية ثم نسبيا في الحركتين النقابية والحقوقية و'تمثيلها' للتمثل الاسلامي الوطني التقدمي بطريقتها بما أضعف تطور تيار "الاسلام الوطني التقدمي" الخاص و المتمايز ضمن طيف 'الحركة الاسلامية' .
- الصدّ اليساري السياسي و الثقافي و النقابي و الحقوقي للعناصر و المجموعات الاسلامية التقدّمية ووصمها 'بالتخونج' مما دفع عناصر كثيرة إما الى الاستقالة السياسية أو إلى العودة الى الحركة الاسلامية التقليدية.
- قيام النهضة ،خاصة بعد المؤتمر العاشر، بتعديلات نسبية على خطابها أضعف من حظوظ تمايز النزعة الاسلامية الوطنية التقدمية وأربك حتى قيادات تاريخية من مجموعة 'الاسلاميين التقدميين' التونسيين.
- بروز تيارات ديمقراطية اجتماعية وسطية -مثل التيار الديمقراطي- تحاول 'التعالي على ماهو ايديولوجي' وجذبها لعناصر كان يمكن أن تكون خزانا لحركة اسلامية وطنية تقدّمية ثم بروز قيس سعيد الذي يستعمل المرجعية الدينية على طريقته في مصارعة النهضة بشكل لا يساعد على استقلال و تمايز حركة اسلامية وطنية تقدّمية.
- تطوّر 'الاستقطاب العلماني/ الاسلامي' بشكل حادّ اختلطت فيه 'العلمانية' بالدولة العميقة واستنذت فيه الى اسناد اقليمي و دولي لا يساعد على تحرر عناصر اسلامية من الطيف المحافظ التقليدي -الذي ارتبط بقطر/تركيا - و على التحاقها بالطيف الوطني الاصلاحي أو التقدّمي ثم حسم قيس سعيّد أخيرا للصراع مع النهضة مكنها من استثمار ذلك في كسب من كان يمكن أن يشكل تصورا متمايزا يطور تصورات اسلامية وطنية تقدمية.
- تراجع 'المصالحة' الحركية السياسية السنية/الشيعية وتطور الخلافات بين التيارين الحركيين بعد 'الربيع العربي' مما أحرج شخصيات اسلامية وطنية تقدمية في الوسط السني التونسي - وغير التونسي - من خلال اتهامها بالتشيع بسبب مواقفها المساندة لدول وحركات شيعية في المشرق العربي.
كلمة قصيرة أخيرة :
منذ 1974 كان هشام جعيط قد كتب في "الشخصية العربية الاسلامية و المصير العربي " أنّه " لا يجب أن يتمّ الإصلاح على حساب الدّين ،بل يقع في نفس الوقت بواسطة الدّين وفي الدّين و مستقلّا عنه ." ( ط.2.ص.112) بحيث وضع شعارا مكثفا لبرنامج علمنة أخرى ديمقراطية أنسنية لا تكون معادية للدين -كهدف مركزي علماني تقليدي - بل تكون صديقة نقديّة لتأويله كي يصبح الدين - مع غيره المستقل عنه من فلسفة وعلم وغيرهما - رافدا من روافد الاصلاح الوطني و الاجتماعي و الديمقراطي الحديث تونسيا وعربيا ومنفتحا على القيم الانسانية الكونية .
ورأيي الخاصّ أنّ ظهور تيار إسلامي وطني تقدّمي جديد هو ضرورة قصوى للمساعدة على تحقيق ذلك الاصلاح المجتمعي 'بواسطة الدّين وفي الدّين" بالتنسيق مع تيارات أخرى تفضّل تحقيق نفس الهدف من خارج الدّين و "مستقلاّ عنه" و الا فانّ التطرّف الاسلامي و التطرّف العلماني سيقضيان على كل أمل في إصلاح ذاتي وطني تونسي ضمن محيط عربي اسلامي و منفتح على غير العرب وغير المسلمين في الداخل و على الانسانية بكاملها ، ليكون فعلا إصلاحا شاملا لكل الميادين وعاما يفيد جميع التونسيين و دائما لأجيالهم كلّها .
و أخيرا -بالعودة إلى اليسار- أعتقد أن اليسار الجديد يجب أن يعتبر أنّه صاحب المصلحة الأولى في تبني هذه الرّؤية العلمانية الجديدة التي تمكن من توحيد صفوف أغلب التونسيين بمن فيهم من يوجد من اسلاميين وطنيين تقدّميين- يجب تشجيع وجودهم ونشاطهم - وفق خطة عقلانية أنسنية جديدة بعيدا عن الاسلاميين التقليديين وعن العلمانيين التقليديين الذين يمكن المجازفة بالقول أنّ 'زمنهم المعرفي ' -وليس الديني- إنتهى تقريبا و أنّ زمنهم التاريخي -وليس السياسيّ- قد ينتهي قريبا.