أراجع موجة التفاؤل الأولى التي بنيت على هشاشة المنقلب في تونس بالنظر إلى افتقاده لمقومات انقلاب ناجح. لقد كان أسهل انقلاب في التاريخ (مقال سابق بالموقع). لكني التقط مؤشرات مترادفة على استقراره بعوامل من خارجه لا بقدرات ذاتية اكتسبها بذكاء المنقلب وبذكاء حزامه السياسي. وأهم المعطيات التي توفرت له أو الوقائع التي خدمته.
اختلاف عميق بين المكونات السياسية التي تعارضه في الداخل. اختلاف الموقف منه لدى القوى الخارجية المحيطة بتونس والتي سمحت لها هشاشة الداخل بحشر أنفها في تفاصيل الحياة السياسة الداخلية بلا حياء أو وجل. بين هذه الاختلافات والصراعات الداخلية والخارجية يمر الانقلاب بسلاسة لم نتوقعها.
الصورة النمطية للانقلابات العربية ضللت التحليل المتفائل.
أحالتنا كلمة الانقلاب في تونس إلى مقارنة بنمط محدد من الانقلابات جرت في المنطقة العربية منذ الخمسينات. العراق، سوريا، مصر، السودان. انقلابات متشابهة وأحيانا متطابقة يتقدم فيها العسكر إلى أخذ السلطة بقوة الدبابة ويغلق الفضاء العام ويقدم ضحايا على المذبح بما يؤدي إلى انكماش سريع وتجنب المواجهة في الشارع حتى يستقر الأمر للعسكر المنقذ من الفوضى والفشل ويشرع في الإنقاذ أو التصحيح ويظل يسد على الناس أبواب الاحتجاج والرفض حتى يستكينوا ويسلموا له.
جاء انقلاب تونس في صائفة 2021 بلا عسكر ظاهر في الصورة ولم يسل دماء في الشارع، بل تحدث من داخل القانون وأعلن الحفاظ على المؤسسات فكأنه نصف انقلاب أو كأنه حركة تصحيحية حقيقية لوضع لم يكن يرضي الا قليلا من الناس. وعلى خلاف الانقلابات العربية الحاسمة والسريعة ظل انقلاب تونس يتقدم بخطى وئيدة ويكرس نفسه (قطرة بقطرة) وفي كل خطوة يتفطن الناس أنه يتقدم ولا يتراجع فتظهر موجات استسلام تبرر لنفسها غالبا بجملة بسيطة في ظاهرها (دعنا نجرب ثم نتخذ موقفا في وقت لاحق).
لقد بنيت تحليلات كثيرة (ساهمنا فيها عن جهل بالمعطيات الدقيقة) على أن الجيش التونسي مختلف عن الجيوش العربية وأنه غير راغب في السلطة (خاصة ونحن نتذكر أن السلطة كانت مرمية على قارعة الطريق منذ الثورة فلم يمد يده وآثر دفع السياسيين إلى الموقع الأول. لكن الجيش غير الظاهر في مقدمة الصورة يسند الآن الانقلاب ويحميه. بما قرب صورة انقلاب تونس من الصورة النمطية للانقلابات العربية. الجيش الآن جزء من الانقلاب ولا يقف على الحياد. (القوة الصلبة للدولة بيد الانقلاب وليس العكس) وهذا عنصر استقرار توهمنا غيابه استسهالا للتحليل أو توليفا للأمل الكاذب المريح.
في الانقلابات العربية النمطية نادرا من انتبهت التحاليل إلى موقع قوة المال الموجودة قبل الانقلابات والتي لم تكن تدفع أية كلفة، ولكنها تغنم كل شيء وهذه جزء فعال من القوة الصلبة التي تقف الآن مع الانقلاب لم تدفع شيئا وغنمت كل شيء. فشعارات مقاومة الفساد كانت ذريعة ولم تتحول إلى جهد جدي بما طمأن الفاسدين الذين يمولون على سبيل المثال إعلاما فعالا يدافع عن الانقلاب ويصور المنقلب كقصير مطلق اليد في امبراطوريته.
هذا التقييم/ التحليل النمطي للانقلاب (بالقياس الخاطئ شكلا) سمح للانقلاب بالتقدم على أرضية سياسية تشقها صراعات استئصالية.
الصراعات الداخلية خدمت الانقلاب وتخدمه
أغلب الذين عارضوا الانقلاب معارضة حنجورية سلموا له بأن الوضع قبله كان فاسدا ويجب الخروج منه مغفلين عامدين أنه كان وضعا قانونيا سليما لقد قبلوا مسلماته بما كبل حركتهم المعارضة له لاحقا. وسهل على الانقلاب وصمهم بأنهم فاسدون يدافعون عن مرحلة فساد. لقد نافقوا الانقلاب ونافقوا الشارع وتورطوا في معارضة غير جادة مكنت للانقلاب.
لقد كان كل قول بسلامة الوضع القانوني قبل الانقلاب (بقطع النظر عن ضعف النتائج الاقتصادية) يعني بناء الموقف السياسي على العودة إلى الوضع الدستوري الشرعي وهي العودة التي تؤدي بالضرورة إلى عودة الغريم الإسلامي إلى موقعه (كقوة برلمانية أولى تتحكم في البرلمان أو تستفيد من وجودها فيه في الحد الأدنى). لقد رغبوا وتمنوا أن يقوم الانقلاب بإزاحة غريمهم من موقعه لكن دون المساس بالشكل القانوني للنظام السياسي وبشكل الدولة المتوارث فيمهد لهم بوابة عودة إلى مواقع نفوذ دون منافسة.
انتبه الانقلاب إلى هذا الموقف المتذاكي لمعارضيه الحنجوريين. فتقدم بلا عناء نحو المرسوم 117 الذي بدأ تفكيك الدولة ومهد لمرحلة تلغي كل معارضة مهما كان لونها. ولا تزال هذه المعارضة الصوتية تعيش ورطتها الخاصة في المواجهة.
فهي معارضة بلا شارع حقيقي وتحتاج شارعا وصورا مضخمة لجماهير لا تملكها وتعرف من يملكها لكن التحالف معه يعيدها إلى وضعها النخبوي المعزول قبل الانقلاب ويمكن لغريمها الذي يملك وحده أن يملأ الشارع بالبشر وهذا الأمر لا يخفى على الانقلاب لذلك يمعن في وصم كل من يعارضه بالخوانجية. كيف يمكن الحصول على جمهور النهضة في الشارع دون إعطائه مكاسب لما بعد الانقلاب؟ يعرف الانقلاب وآلته الدعائية هذا الأمر لذلك لا يدخل في حرب استئصالية صريحة متمتعا بعجز معارضه على التوحد ضده تاركا لهم وقتا لمزيد من الفرقة. (هذا سر صمت الشارع وتقطع حركته الاحتجاجية) هذه هي الحال السياسية التي كان بن علي يراقبها ويصب عليها الزيت ويتمتع بالسلطة ويرسخ أقدامه.
يعرف الإسلاميون هذا أيضا لذلك لا يمنحون جمهورهم مجانا ورسائل توحيد المعارضة التي أرسلوها لم تجد آذانا صاغية. السير مع النهضة عند معارضي الانقلاب يعني الخضوع لها أو ترسيخ قدمها في ما بعد الانقلاب، وهذا خيار أسوأ عندهم من القبول بالانقلاب. وهو الموقف الذي ترجمه موقف النقابة التي اصطفت صراحة مع الانقلاب.
انتظار الهدية الخارجية ذريعة كسولة
ثلاثة أشهر تقريبا والمعارضة تتساءل عن موقف القوى الخارجية وتتمنى صفعة واحدة تطيح به. لكن هذه الصفعة لم تأت ولا نراها في الأفق. وقد عاينا العيون المشدودة إلى جلسة الاستماع في الكونغرس كأنه مكلف بحل مشاكل تونس من وراء البحر. لم تر هذه العيون قوة الموقف الفرنسي الذي يسند الانقلاب ويكيف الموقف الأوروبي جملة ويؤثر قطعا على الموقف الأمريكي نفسه.
لم تستفد المعارضة (وهي في اغلبها ممن جرب انتظار موقف دولي حاسم ضد بن علي لمدة ربع قرن) لم تظفر بأية مساعدة جدية، بل حصل العكس لقد حرس بن علي حدود أوربا من الهجرة السرية ويفعل الانقلاب ذلك الآن بالقوة الصلبة التي بين يديه وهذا وضع مطمئن لبلدان الضفة الأخرى التي تصدر بيانات ديمقراطية كعادتها دون ضغط حاسم.
في مواجهة هذا الاستبضاع السياسي الكسول والمهين في آن أخرج الانقلاب حديث السيادة الوطنية في مواجهة الخونة. فدفع(الخونة) إلى خطاب دفاعي غير متماسك.
ينتهي غالبا باشتهاء (غضبة مضرية) تأتي من الغرب الديمقراطي لإعادة وضع المعارضة على سرج السلطة وتحاكم الانقلاب أمام محكمة الجزاء الدولية. ولم يطرح أحد السؤال الضروري: هل خسر الغرب شيئا جراء الانقلاب في تونس؟ ماذا لو أفلح الانقلاب في الحفاظ على حالة سلمية لا تنتهي بموجات هجرة سرية؟ من أجل هذا أراهم يستعدون لوضع يدهم في خزائنهم لإسناده في حدود الحفاظ على أمنهم وأمن شركاتهم (الفرنسية خاصة) العاملة في تونس. الأمن الداخلي ورقة بيد الانقلاب لا تحسن معارضته تقديرها حق قدرها (يتذكر الغرب لعبة فتح الحدود التي لعبها الباجي رئيس الحكومة في 2011 حتى تجرأ التونسيون على احتلال جزيرة لمبدوزا الإيطالية) ولا أراهم يسمحون بلعبة مماثلة. أما تمتع التونسيين بحريتهم فأراه أمرا لا يشغلهم الا كتمويه إعلامي أمام شعوبهم بصفتهم دولا ديمقراطية. انهم مع بن علي الثاني.
ماذا بيد معارضي الانقلاب الآن؟
لقد دخلت المعارضة في تمني الكارثة الاقتصادية لكي يسقط الانقلاب من تلقاء نفسه. وهي تتمتع بالأخبار عن تردي المؤشرات الاقتصادية وعن أزمة تستفحل. متناسية أن الأزمة ستظل بعد الانقلاب وأنهم سيعانونها بلا موارد. ماذا لو كان الانقلاب نفسه يعمق الأزمة لكي يدفع معارضيه إلى الهروب من مواجهتها بعده فيقول قائلهم: لا قبل لنا بقيادة البلد في ظل أزمة قد تمس رواتب الموظفين المستقرين؟
هل تصل المعارضة إلى مصارحة نفسها فترى أخطاءها قبل خطيئة الانقلاب؟ وتقر بأن الروح الاستئصالية التي قادت فعلها السياسي منذ نصف قرن هي السبب الحقيقي في الانقلاب وأن أي فعل ديمقراطي ووطني يبدأ بالخروج من هذه الموقف الاستئصالي؟
بعقل بارد أصل إلى قناعة راسخة هذه المعارضة الفاقدة للشارع والفاقدة خاصة للمصداقية السياسية لن تفعل وهناك مؤشرات جلية. أهمها وأوضحها الاصطفاف وراء النقابة التي تصطف مع الانقلاب بلا مواربة فكيف يستقيم موقف معارض يستعين بموقف مساند؟ ولا يريد أن يعترف أن أهم دعم رسخ أقدام الانقلاب هو الإسناد الذي منحته إياه النقابة مجانا (ليس مجانا تماما فالنقابة هي قائدة الممارسات الاستئصالية).
إني أرى الانقلاب يضحك ملء شدقيه من تناقض مواقف معارضيه وهذا يسمح له بمد رجله في مستقبل البلد.