الاستثناء يؤكد القاعدة
قاعدة قانونية لاتينية
exceptio probat regulam
أمر رئيس الجمهورية خلال اجتماع مجلس الوزراء في14اكتوبر 2021وزيرة العدل بفتح بحث تحقيقي في جرائم الاعتداء على الأمن الداخلي والخارجي طبق الفصل 23من مجلة الإجراءات الجزائية. قرأت بعض التعليقات تدعي صحة هذا الأمر طبق ما ورد بالأمر عدد 117 المؤرخ في 22سبتمبر 2021.
فبناء على الأمر المذكور فان رئيس الجمهورية مسؤول على تنفيذ القوانين وهو الذي يرأس مجلس الوزراء ويمكنه ان يطلب من إي وزير القيام بأعمال تدخل في مجال اختصاصه وانه بناء على ذلك يمكنه أن يأمر وزيرة العدل بفعل ما طلبه وهي التي خولتها مجلة الإجراءات الجزائية سلطة على ممثلي النيابة العمومية كي تطلب من الوكيل العام إجراء التتبعات سواء بنفسه او بواسطة غيره من قلم الادعاء طبق الملحوظات التي تراها وذلك هو التشريع الجاري به العمل حاليا حسب مجلة الإجراءات الجزائية.
هذا التحليل الشكلي «لصحة» الإجراءات القانونية جائز ولكن من داخل الأمر 117لا غير إذ انه يستنبط «شرعية» تصرف الرئيس من «شرعية» الأمر ذاته دون أن يخوض في أي نوع من المحاجّة من خارج الأمر أي دون إن يتجشم عبء طرح التساؤل حول حقيقة الشرعية الدستورية لما يحصل. فمن المفروض أن يكون كل محلل للمسألة القانونية مسكونا وإن كان ذلك بمجرد التساؤل حول كامل الإطار القانوني الذي هو محل نظره أو تبريره.
بن علي والفصل 23من مجلة الإجراءات الجزائية
وبالعودة إلى الأمر الصادر من الرئيس إلى وزيرة العدل فإنه قد يغيب على الكثيرين معطيات ذات دلالة حول تاريخ النيابة العمومية في علاقتها بالسلطة الرئاسية عليها من وزير العدل. لم يلتجئ بن علي إلى هذا الإجراء أي إلى للفصل 23من مجلة الإجراءات الجزائية في إسداء التعليمات من وزراء العدل للنيابة العمومية لفتح تحقيقات قضائية ضد معارضي النظام ومن كانوا يختلفون معه لان مثل ذلك الإجراء هو الدليل القاطع على عدم استقلال القضاء وتدخل سلطة السياسية مباشرة في التتبعات القضائية ضد معارضيها.
لا يعني ذلك طبعا أن بن علي ووزراء عدله لم يكونوا يتدخلون في القضاء ويوظفونه في محاربة خصومهم السياسيين. لقد كان التدخل في سير القضاء وفي الملاحقات القضائية ممارسة منحرفة ومعهودة لديهم ولكن بواسطة التعليمات الشفاهية. لماذا؟ التعليمات الشفاهية لا تترك أي اثر فهي سرية وحريصة على الكتمان وسيلتها التلفون أكثر من غيره والاجتماعات بمكتب وزير العدل.
كانوا حريصين على عدم ترك دليل وراءهم كما أنهم كانوا يتجنبون إسداء التعليمات من هذا النوع في مجلس وزاري أو في غيره من المجالس العامة يصل أمره إلى الداخل والخارج ليس لان التعليمات لم تكن تعطى، بل لان كل ذلك كان يجترح في حفاظ على مظهر الاستقلالية وعلى شعار الاستقلالية الذي كانوا يستخدمونه في الخارج خاصة ضمن الصورة التي يروجها النظام حول نفسه للإيهام بان البلاد تحكمها دولة القانون والمؤسسات ومن ركائزها استقلالية السلطة القضائية.
هل معنى ذلك أننا ندعو إلى إعطاء التعليمات وفق ما كان يصنعه بن علي؟ بالتأكيد لا بل إننا نرفض قطعيا تلك الممارسات التي حولت القضاء إلى جهاز تابع للسلطة التنفيذية خدمة لمنظومة الفساد والاستبداد. نحن بالعكس من ذلك تماما ندافع على مكسب السلطة القضائية المستقلة وعلى مكسب اعتبار النيابة العمومية جزءا من القضاء العدلي لا جزءا من السلطة التنفيذية طبق الباب الخامس من الدستور بما يستتبعه ذلك من استبعاد السلطة الرئاسية عليها من وزير العدل وإرساء الممارسات الفضلى لتأهيلها للاضطلاع بمهامها في نطاق الاستقلالية والمسؤولية في انتظار صياغة القوانين الجديدة المنظمة لهذا الجهاز القضائي..
ما نريد قوله هو إن بن علي كان يعرف جيدا أن استعراض مظاهر التدخل في القضاء لا تعزز سلطته ولا تخدم دعاية دولة القانون والمؤسسات التي كان يروج لها. فكيف يمكن اليوم بعد ما حصل في المجلس الوزاري يوم 14أكتوبر 2021إقناع إي مراقب غير منحاز محليا كان أو دوليا باستقلال القضاء في تونس بعد هذه المشهدية السياسية الاستعراضية على الهواء في شكل تعليمات تصدر مباشرة من رأس السلطة التنفيذية بفتح تحقيق ضد هذا أو ذاك على رؤوس الملأ مع تحديد التهم من رئيس الجمهورية في مجلس وزراء في حين انه لا أحد يجهل أن تكييف الوقائع إلى تهم هو عمل قضائي، بل إنه من جوهر عمل القضاة. فضلا على ما يمكن ان يسببه هذا الأسلوب من ضغط وترهيب للقضاة في ظل ظروف تجتمع فيها كل السلط تقريبا لدى رأس السلطة التنفيذية.
القاعدة والاستثناء
من الصعب أن نقنع أي ملاحظ دولي خاصة أن هذا التصرف يجد مبرره في الفصل 80من الدستور او في الدستور عموما. فمما لا شك فيه انه لا توجد في الأنظمة الدستورية للدول الديمقراطية التي تقوم على مبدأ التفريق بين السلط والتوازن بينها أي تدابير استثنائية يمكن أن تمارس خارج أي رقابة مؤسسية وخاصة رقابة المحكمة الدستورية أو خارج الرقابة القضائية مطلقا، وذلك من خلال الحكم بمراسيم لا تقبل الطعن بأي وجه من الوجوه وبقضاء غير مستقل.
وهذا تحديدا مضمون حديث رئيس لجنة البندقية إلى جريدة «لابراس «يوم 8أكتوبر 2021فقد أكد الرجل انه لا يدعي تأويل الدستور التونسي، ولكن ما يعرفه هو أن تأويل الرئيس للتدابير الاستثنائية يتعارض مع الفهم المتداول لها في الأنظمة الديمقراطية التي لا يمكن أن تسمح بتجميع السلط في يد شخص واحد مهما كانت دوافع ذلك. فالاستثناء لديهم يؤكد القاعدة وهي دولة المؤسسات القائمة على تفريق السلط وتوازنها يحميها من أي خطر داهم ولا يلغيها.
إن إخضاع جملة الأوامر التي أصدرها الرئيس إلى مفهوم الشرعية كما تفهم في دولة القانون يجعل النظر إلى هذا الفعل أو ذاك من أفعال الرئيس مثل الأمر الصادر منه إلى وزيرة العدل بمعزل عن الإطار العام للتدابير الاستثنائية ومدى تقيدها بمبدأ الشرعية نظرا مجتزءا منقوصا من إعمال كل أدوات التحليل القانوني التي يقتضيها الظرف فلا تصح استنتاجاته بالمآل.
يبدو أن النيابة العمومية والقضاء بشكل عام سيكونان على المحك، واقعين تحت شتى أنواع الضغوطات في الفترة القادمة بما فيها من صراعات سياسية والمزاج العام … النيابة العمومية هي بوابة حماية الحقوق والحريات، حماية حق المجتمع في تتبع التجاوزات وفي المساءلة وحقه أيضا في حماية حريات الأفراد من الملاحقات الانتقائية المصطبغة بصبغة تصفية الحسابات الشخصية.
في هذه الظروف الاستثنائية على القضاء نيابة ومجلسا من الأصناف الثلاثة العدلي والإداري والمالي أن يقوم بدوره بنجاعة في تحقيق هذه الموازنة بين محاربة الفساد وشتى أنواع الجرائم بنتائج جدية وحماية الحقوق والحريات من القمع والتعسف والانتقائية بنزاهة وحيادية واستقلال لا سلطان عليه لغير القانون.
لنتجنب إخفاقات ماضي الاستبداد التي حكم عليها التاريخ والتي لاتزال أثارها تلاحقنا وتشير كلها إلى قضاء كان تابعا في خدمة الحكام ..قضاء تخلف عن الفعل الديمقراطي وأعاق سير البلاد نحو دولة القانون فلنتدارك نحو التأسيس لدولة القانون رغم صعوبة الظرف وشدة الضغوطات..