التبعية، الإلحاق، الربط والارتباط بفرنسا: المصطلحات

يمثل التسليم بالمصطلحات المتداولة حين تناول علاقتنا غير السوية مع فرنسا، بعض أوجه القصور في ذلك التناول، و إذا عرفنا أنها مصطلحات لم ننتجها، فإن القبول بها تسليم بالحقول الدلالية (1) التي تتحرك فيها وهي على الأرجح لا تخدمنا حين نريد فك الارتباط من فرنسا.

المصطلح في أساسه تصرّف في الدلالة الأولية للفظ اللغوي الموجود ابتداء، وهو استحداث أو تغيير للمعنى أوجد بغرض إنشاء دلالة جديدة، فهي عملية وضع دلالي لا يحده ويضبطه إلا موجد المصطلح.

قد يكون المصطلح استحداثا دلاليا جديدا، فمصطلح استعمار مثلا يستعمل لوصف عمليات التواجد الأجنبي القاهر بتونس التي يعبر عنها لغويا بالاحتلال، فهنا مصطلح استعمار استند إليه لإنشاء دلالة جديدة هروبا من الدلالة اللغوية غير المرغوب فيها، حيث مدلول واحد يعبر عنه لغويا بالاحتلال واصطلاحيا بالاستعمار.

والمصطلح قد يكون تصرفا بتغييب جزء من الدلالة اللغوية الأصلية للمدلول، فعمليات التشكيل الذهني للتونسيين باستعمال أدوات الدولة التي أسسها بورقيبة للإلحاق اللامادي والمادي بفرنسا، تسمى في أدبيات الدعاية الرسمية التونسية والفواعل الإلحاقية (2) المرتبطة بفرنسا، عمليات تحديث، في حين أن الحقيقة هي أن ما قام به بورقيبة فيه تحديث ولكنه ليس تحديثا فقط، هو تحديث يمثل غطاء لعمليات اقتلاع قهري استهدف التونسيين وإلحاقهم ذهنيا ووجدانيا بفرنسا، فهنا التحديث مصطلح فيه استحداث دلالي جديد للتعبير عن عمليات الإلحاق بفرنسا أو انه في أحسن الحالات يمكن فهمه انه تعبير عن الكل من خلال جزء من المدلول.

بهذا المعنى فالمصطلحات نوع من المصادرات المفهومية التي تكوّن حقل الأصنام المعرفية الذي نتحرك فيه منذ عقود، ولما كنا نر يد التخلص من أسباب ربطنا اللامادي بفرنسا، فعلينا النظر في المصطلحات التي روجتها أدوات تشكل الأذهان بمستوييها الرسمي ثم الفواعل الإلحاقية المرتبطة بالغير الفكري وهم عموما التنظيمات اليسارية التي وفدت أو نشأت بطرق مشبوهة (التنظيمات التونسية التي كانت مرتبطة بفرنسيين خلال تكونها الأول مثل الحزب الشيوعي أو المكونات النقابية) مع حمولة مفهومية و أسقطتها علينا زاعمة أنها مفاهيم كونية من دون النظر فيها باعتبارها حوامل مثقلة بالخلفيات الفكرية لمن أنتجها.

خطر المصطلح أنه يقوم بعملية تحويل للمعنى بطريقة غير مضبوطة لأن كل يمكنه وضع مصطلح ويروجه ويقبله الغير ويستعمله كما هو، أي أن الوضع الدلالي فيه، ليس قياسيا من ذلك الذي يقع الاحتكام في فهمه لجهة تحكيمية أي لمختصي اللغة، مما يجعل دلالة المصطلح تتمطط في الاتجاهات كلها، والخطر يكون أكبر حينما تكون المصطلحات ذات شحنات فكرية مغالبة.

صياغة منهجية لدلالة المصطلح

وضع التعريفات اللغوية عملية تتم من خلال التجريدات الذهنية لمعنى عقلي / معقول، ماديا كان أو غيره، فالوضع اللغوي عبارة عن مقابلة تعلّق ألفاظ بموجودات واقعية (قد تكون موجودات ذهنية)، وتلك المقابلة تكون بصيغة كل لفظ لغوي يقابله موجود / مدلول، لكن تلك المقابلة تؤثر فيها أيضا دقة الدلالة أي هل اللفظ يؤدي لمعنى مؤكد أو معنى محتمل.

أي انه يمكنني وضع المعادلة العامة التالية :

المدلول=اللفظ x دقة الدلالة .

بغرض فهم عملية الوضع اللغوي و أهمية المصطلح، سنقوم بنمذجة، فعملية المقابلة الدلالية هي بين لفظ ومدلول، يمكن افتراض وجود عامل يعطينا عامل الدلالة أي توضيح اللفظ للمدلول وهو ما سميته عامل دقة الدلالة.

هنا يمكننا القول أن الألفاظ المتعلقة بموجودات مادية، يكون عامل دقة الدلالة كاملا، بمعنى حينما اطلق لفظ كتاب مثلا، فالدلالة ستكون كاملة، لأنه لا توجد احتمالات ضياع للمعنى مادام المدلول موجودا ماديا مما يمكن ضبط مجاله، فعامل الدقة في الماديات يكون كاملا أي واحدا (العدد / الرقم واحد وهو لا يغير المعادلة في عملية الضرب) .

إذن في الماديات تكون معادلة الدلالة :

المدلول= اللفظ

بينما الموجودات اللامادية فإن اللفظ يعبر عن المعنى بطريقة احتمالية، لان المدلول ليس مما يتفق على ضبطه، مثلا في حالة معينة، نريد أن نصف فيها أحدهم بالشجاع أو الجبان، فهنا سيكون الاحتمال أنه وضع غير متفق عليه، لأنها عملية نسبية تتعلق بفهم وصف الحالة للفظي شجاع أو جبان وبفهمه الوضعية الواقعية أي المدلول، وقس على ذلك باقي اللاماديات مثل : تقي وجائع وجميلة وبشعة وخائن،

إذن فعامل دقة الدلالة سيلعب دورا هاما في معاني اللاماديات، وهو عامل سيتراوح بين قيمة تقرب للواحد في اللاماديات المتفق بشأنها مما يقرب من الماديات (مثلا لفظ تعب يكاد يتفق عليه دلاليا)، حد الوصول لقيمة تقارب الصفر حينما يكون اللفظ متعلقا بمعاني لامادية غريبة أو دقيقة أو مستحدثة (مثلا لفظ جميل، عنصري، البركة،)

إذن في اللاماديات تكون معادلة الدلالة :

المدلول=اللفظ x دقة الدلالة.

(مع عامل دقة يتراوح بين 0 و 1 من دون الوصول إلى أي منهما)

بالنسبة للمصطلحات، فإنه كما رأينا يكون هناك تصرف في دلالة اللفظ التي وضعت ابتداء، فيمكنني إذن للفهم والنمذجة، افتراض وجود ما يمكن أن أسميه : عامل دلالة المصطلح وهي القيمة التي تعبر عن التصرف في دلالة اللفظ الأولي، وهي تتراوح بين قيم يمكن أن تذهب بعيدا في الاتجاهين، أي زيادة ونقصانا في اللفظ الأصلي، ولا يحدها أي اعتبار، إلا أن لا تكون صفرا، لان ساعتها لا توجد عملية الدلالة أصلا.

إذن في المصطلحات تكون معادلة الدلالة :

المدلول=اللفظ x دقة الدلالة x عامل دلالة المصطلح.

(مع عامل دقة يتراوح بين 0 و 1 من دون الوصول إلى أي منهما، وعامل المصلح متغير بشرط أن لا يكون صفرا)

نلاحظ حسب تلك المعادلة أن المصطلح يبدأ من معادلة أساسا قد تكون جزءا ضعيفا من دلالة اللفظ حينما يتعلق الأمر بلفظ لامادي (مثلا ستكون دلالة لفظ شجاع 0,80 )، وحينما يقع ضرب تلك القيمة في عامل المصطلح فانه يمكنه إضعاف الدلالة اللغوية أكثر (يمكن أن يكون عامل المصطلح أقل من واحد : 0,7 مثلا، ساعتها سنكون دلالة المصطلح : 0,8 مضروبا في 0,7 والنتيجة 0,56 من المعنى اللغوي الأولي)، وهذا هو حاصل عملية الضرب، لان المصطلح سيتصرف في الدلالة اللغوية الموجودة فهو ضرب عددي وليس جمعا، نرى إذن أن المصطلح يمكن أن يبتعد كثيرا عن المراد اللغوي الأولي للفظ، وهذا يؤكد الانحرافات الممكنة للمصطلحات كما بينا سابقا.


…

في وجوب نحت مصطلحاتنا

المصطلح في أساسه ليس ترفا وإنما أوجد نتيجة حاجة لنقل معاني لا تلبيها الألفاظ اللغوية، والتسليم بالمصطلحات الموجودة من خلال استعمالها من دون اعتراض يعني إما القبول بالأدوار التي تؤديها تلك المصطلحات في اتجاه استهداف التونسيين وإلحاقنا لاماديا وماديا بفرنسا، أو انه تسليم غير مقصود سببه عم فهم لعمل المصطلحات.

حينما نريد التعبير عن مفاهيم لا عهد لنا بها، فإننا سنضطر لإنشاء أوعية لغوية جديدة، وهو ما يستدعي نحت مصطلحات، وقد نستعمل تلك الموجودة مع إعادة تعريفها أو ضبط حقولها الدلالية

في نطاق مشروع تفكيك الروابط اللامادية بفرنسا الذي أحاوله، قمت بنحت مصطلحات : الفواعل المفكرة (3) عوض النخبة والفواعل الإلحاقية عوض المكونات التي تصف نفسها بالقوى التقدمية الحداثية، والمعمارية الفكرية (4)، وأعدت ضبط مصطلح استعمار الذي يستعمل في تونس بمعنى احتلال، وسيتم مواصلة العمل في هذا الاتجاه.

من ذلك، علينا النظر في مصطلحات تتناول من غير تدقيق : الإلحاق، التبعية، الربط الارتباط بفرنسا.

الإلحاق عملية إيجاد وضع معين أي أنها عملية أي متغيرة نسبة للزمن فهي مجهودات وسائل تشكيل الأذهان لإحداث تغييرات لدى التونسيين لإيصالهم لحالة أخرى وهي حالة التابع لفرنسا.

فالتبعية إذن حالة مستقرة تأتي بعد مجهود سابق يكون الإلحاق.

الربط هو عمل يقصد به إيجاد علاقة التبعية بفرنسا مع نوع من الإرغام، فهي كل العمليات التي تحدث قهرا ضد التونسيين لإرغامهم على الوصول لحالة الارتباط، وكونها قهرا لا يعني وعي التونسيين بها، فالإرغام هنا بمعنى تغيير من غير إرادة التونسيين، إذ عمليات الإلحاق الذهني التي خضع ويخضع لها التونسيون من خلال التعليم والإعلام والثقافة تتم بطريقة إرغامية لكنهم لا ينتبهون لذلك.

إذن فالارتباط هو النتيجة النهائية لأعمال الربط.

من زاوية أخرى، التبعية والإلحاق يمكن إطلاقهما على مجالات معينة، بينما الربط والارتباط يتعلق بالحاق كلي للتونسيين في كل المستويات مادية ولامادية، وإن كان يمكن استعمال الإلحاق والتبعية بمراد الربط أحيانا إن كنا لا ننوي التدقيق وهذا لا خطر فيه، لأنها مصطلحات تتحرك كلها في نفس الحقل الدلالي.

نستعمل كذلك تعبير : علاقة غير سوية مع فرنسا، ولا نستعمل تعبير : علاقة غير طبيعية،لأن الطبيعي إحالة لمعنى وضع في حالة الطبيعية أي النشأة الأولي، فهو تسليم بالموجود الأول كمرجع في الحكم على صوابيته، بينما السوي، يحيل لمرجع فكري / عقدي يعتمد للحكم على صوابية ذلك الموجود، فوصف سوي يفترض عدم قبول محتمل بالموجود، والطبيعي يفترض قبولا متأكدا بالموجود في حالته الأولى.

رجوعا لحالنا مع فرنسا، فالوضع الطبيعي هو الوضع الموجود في شكله الأولي أي الواقع كما أسسته فرنسا بمعية بورقيبة والفواعل الإلحاقية، ونحن نرفضه اعتمادا على أسباب فكرية وعقدية، فالواقع الطبيعي نسبة لذلك المرجع غير مقبول، فهو غير سوي.

ولكل ذلك نصف حالنا مع فرنسا بغير السوي ولا نصفه بغير الطبيعي.


الهوامش:

(1) نستعمل الدال والمدلول والدلالة بهذه المعاني : الدال هو اللفظ والمدلول هو المعنى المعبر عنه لغويا والدلالة عملية التعلق والمقابلة بين الدال والمدلول، أما الحقل الدلالي فهو مجال المعاني الممكنة التي يتحرك داخلها الدال وهي استعمالات قريبة من معنى الدالة الرياضية أي العلاقة الرياضية (fonction/function)

(2) الفواعل الإلحاقية مصطلح أنحته للتعبير به عن الفواعل المفكرة التي تتحرك في اتجاه الإلحاق بالغير، وهم عموما التنظيمات السياسية والتعليمية والثقافية والاعلامية التي ترى فرنسا نموذجا ولا ترى أي مشكلة في الربط المادي واللامادي بها، وهي تلك التي تتسمى عموما بأوصاف الحداثيين التقدميين، ويمكن أن يكون منها من لا يفعل ذلك.

الفواعل الإلحاقية عادة تكون فواعل مفكرة من التي تتحرك في مستوى الإلحاق اللامادي بفرنسا (كيانات سياسية، ثقافية، تعلمية، صحافية,,,)، ولكنها قد تكون فواعل غير مفكرة (مفكرة يقصد بها الصفة المتعلقة بمستوى الإلحاق هل هو مادي او لامادي) من تلك التي تعمل على إلحاقنا بفرنسا ماديا مثل رجال الأعمال وعموما كل من يتحرك في مستوى الإلحاق المادي فقط.

(3) حول تعريف الفواعل المفكرة ينظر لمقال :في فهم الربط المادي واللامادي بفرنسا

(4) سيقع تناوله بالتفصيل لاحقا

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات