ما يحدث في السودان هي القضية الحقيقية الوحيدة في العالم العربي: الصراع الدموي على السلطة لأن العربي عموما لا يستطيع عمليا أن يتقبل فكرتين: التداول السلمي على السلطة والمحاسبة، العربي يدخل السلطة بالقتل أو السجن ولا يخرج منها إلا بالقتل أو السجن أيضا، في التراث أن أحد أمراء الدولة الأموية سألوه: "لماذا لا تبني لك بيتا؟"، قال: "بيتي دار الإمارة أو السجن"، الحاكم العربي لا يتصور نفسه مواطنا عاديا في الوطن، لا تسبقه المخابرات للبحث في نوايا الناس والشرط الواقفة على الطريق في الشمس أو المطر والمدرعات الطائرة والأرضية،
في الأثناء: يخلد الحاكم العربي في السلطة إلى أن يتعفن فيها ويعمل الريحة، يصبح كل واحد من أبنائه وأحفاده وأصهاره وحلفائه "هولاكو" صغير، العربي عندما يمسك سلطة يستحضر صورة الخليفة السلطان، ظل الله في الأرض والسلطة هي هدية الله له شخصيا حتى إن زعم أنه يساري حداثي أو حتى ملحد، إنما في كل الحالات، يخترع له القوادون ولجان التنسيق والتفكير والتفسير ووسائل الإعلام سيرة تصفه بأنه ملهم فذ وحيد لا حياة لشعبه دون نفسه المبارك المتردد في أنحاء الوطن حتى أن مجرد تخيله يخطئ أو يعتذر هو هبل وخيانة وطنية وتشويه لصورة الوطن وراءه قوى أجنبية معادية للوطن الأجمل والأفضل في العالم رغم الحاسدين من الشعوب التعيسة في سويسرا وفنلندا والسويد وهولندا والدانمارك،
ويصبح أولئك القوادون الذين لا كفاءة لهم قادة رأي وينالون أوسمة في احتفالات وطنية حاشدة تنقلها القنوات الوطنية وخيرات من الملك العام، ولذلك يقيم نظامه على الولاء ويعادي الكفاءة حتى المحايدة الموضوعية، ولذلك تكون إدارة المخابرات العسكرية والأمن المتنافسة في من ينكل بنا أكثر، أهم وأقرب وسائل السلطة إليه للتجسس على الشعب واختراع المؤامرات، ويقسم الشعب إلى من هم معه "شعبي،
أهلي الخيرون الطيبون، الفاهمون" والآخرون "أشرار ولصوص، شراذمة، مخمورون، أفاعي، استقواء بالأجانب والتمسح على أبواب السفارات التآمر على الوطن وبيع الذمة"، وما دمنا في السفارات، فقد قال صديق طريف من قفصة في أزمة القمع 2004 ساخرا: "لقد اضطرونا إلى أن يصبح الاتصال بسفارة أجنبية عملا وطنيا: على الأقل حين يحس الإنسان بالخطر يقول فيها واك، يسمعه العالم، خير من أن يهلك في صمت"،
النتيجة ترونها فشلا في كل شيء حتى إدارة الزبلة، وبلدانا طاردة لكفاءاتها وأنبل ما فيها، حتى مراهقيها، حتى أن الحاكم العربي هو الذي يعطي المثال في وضع أمواله خارج الوطن، علاج أمراضه خارج الوطن، تدريس أبنائه خارج الوطن، تسوق زوجته وعشيقاته الشرعيات خارج الوطن، ومما يروى عن حسني مبارك أنه كان يتعالج في مستشفى ألماني عمومي، قال أحد مسؤولي المستشفى لزميله: "إنه حاكم أقوى دولة عربية منذ أكثر من ربع قرن" فقال له: "لو كان كذلك لبنى مستشفى لعلاج أمراضه في بلده"،
كل مظاهر الفشل الأخرى هي تفصيل لهذه الحقيقة، وبن علي في قمة جبروته عندما أغلق كل منافذ التنفس في الوطن، اضطر لعلاج مخرجه من السرطان عند الأجانب، لكن لا أحد يعتبر من تلك النهايات البائسة، ولذلك فإن أحسن عاصمة عربية في العالم هي لندن تليها باريس ثم برلين حيث يكتشف العربي "الحياة" دون أن يصطدم بتصنيف مخابرات الدولة له مع أو ضد والمنع الشفوي من السفر بناء على وشاية من جار يشتغل في الأمن بنظام s17 وأنظمة أخرى أكثر ظلما، والمراقبة الأمنية والإقامات الجبرية وهجمات الليل والتعليمات الشفوية والإحالات إلى المحاكمات العسكرية وخصوصا هذه الظاهرة الجديدة للأمن العربي: "هات التاليفون" لكي نرى فيم فكرت، ما كتبت، ما وضعت عليه علامة إعجاب وحياتك السرية وصور زوجتك في رحلتكم الأخيرة إلى البحر يا ولد القـ....؟ اعذزوني لأنهم يقولون لك بوقاحة في كل الحالات: "ما عندك ما تعمل، أنت مواطن، توه تخرا فيه"،
ما يحدث اليوم في السودان هي المعركة الحقيقية في العالم العربي والتي تبدأ منها كل المعارك عن الثروات والتنمية والأمن والأمان وحيث لا يمكن صناعة وطن بمواطنين رعايا عند السلطة لا كرامة لهم وكل المعارك ستنتهي إلى العودة إلى نقطة البداية، وفهمها يتطلب العودة إلى ما قاله الجنرال العظيم عبد الرحمان سوار الذهب: "نحن جيش تعلمنا الحرب والدفاع عن حدود الوطن وليس إدارة السلطة"، منح السياسيين 18 شهرا ثم سلمهم السلطة لكي يعود إلى ثكنته في البيضاء لكنه، يا للأسى، مات منفيا في أحد مستشفيات الرياض، وهو الاستثناء الذي أكد القاعدة في العالم العربي،
فانقلب الجنرال زعيم الأوهام الشعبية صاحب الزلاط عمر البشير على السلطة وظل فيها ثلاثين عاما إلى أن دخل السجن بعد أن قسم السودان مقابل بقائه في السلطة، في تطبيق وفي لرواية الكاتب الكولمبي ماركيز "خريف البطريق" عندما اكتشف الجنرال الحاكم الأزلي خطة الانقلاب عليه: "أولاد القـ... يريدون أن يكونوا أنا"، ولسنا في تونس بعيدين عن معارك السلطة المطلقة، فأنا كنت حاضرا في صناعة الدستور الصغير والكبير حيث عير المؤسسون عن مخاوفهم من انفراد طرف واحد بالسلطة يتبعه ظهور مئات القوادين من المطبلين للطغاة وفقاء السلطان،
في السودان، الجيش أدمن السلطة، وهذا أخطر من إدمان المخدرات، لا يمكن اقتلاع الجيش إذا ذاق السلطة إلا بالدماء الغزيرة، سواء كان جنرالا مزيفا لا حروب له إلا تلك التي خاضها ضد شعبه أو سياسيا متكئا على الجيش والأمن والمخابرات الغبية التي فشلت في توقع كل أزمات الجوع ونقص المياه وتفشي الفساد ونجحت فقط في تهجير الناس إلى عوالم أكثر رحمة، فهي صورة ومعركة العالم العربي، معركة دامية بضحايا كثيرين، حتى أن أدب السجون والمنافي سيصبح اختصاصا عربيا خالصا،