بُنيت الاهرامُ على مدى مئات السنين وكذلك اسوار الصين العظيمة الممتدة على حوالي عشرين ألف كلم، واصبحت امريكا قوة عظمى ببداية تخطيط المدن والعمران والزراعة والصناعة والبحث العلمي منذ نهاية القرن التاسع عشر بدون شطب الخطوط الاستراتيجية العامة للنظام الاقتصادي والاجتماعي، وكذلك الامر في اغلب الدول المتقدمة او المستقرة حاليا. ولكن في تونس يبدو انّ الامر مخالفا لذلك وسببا في تعثّر مسار التنمية الذي هو تراكمي بالضرورة. دعنا نرى بعض الامثلة في المنظور الزمني الطويل:
- في الستينات، كانت استراتيجية التنمية-بما فيها من ايجابيات وسلبيات- قائمة على أساسيْن: (1) "التصنيع باستبدال الاستيرادات" (ISI: Import Substitution Industrialization) في القطاع الصناعي، و(2) التعاضد (Coopératives) في القطاع الزّراعي. وقد مكّنت هذه الاستراتيجية من إحداث "اقطاب تنمية" مهمّة وسدود ضخمة الى جانب السّدود من فترة الاستعمار، اضافة الى المركّب الجامعي في تونس وبعض المستشفيات ومعاهد التعليم الى جانب ما كان موجودا من حقبة الاستعمار.
وحتى إن كانت كل الاستراتيجية التنموية متناقضةً في أهدافها وقد فشلت اجتماعيا (يحتاج الى تفصيل)، جاءت بعد ذلك حكومة الهادي نويرة غيرَ مستغلّةً الاستغلال الأمثل لتلك البنية التحتية الصّناعية والتي كان بالإمكان ان تُعتبر قاعدة انطلاق لسياسات صناعية مُمنهجة حتى في منحى شبه ليبرالي. وعوض الذّهاب قُدما نحو "تصنيع الزراعة وتطويرها" للحدّ من الجزء العشوائي في أدائها، ودعم "البحث والابتكار" اغتناما لفُرصة جودة مُخرجات التعليم، اتّجهت الحكومة من خلال الدفع نحو انشاء طبقة جديدة من المُستثمرين ولكن كذلك من الباحثين عن الرّيع وانشاء قطاعيْ (1) النّسيج و(2)السّياحة واللّذيْن ليس فيهما (1) تكنولوجيا، و(2) لا تصنيع، و(3) لا استثمار في رأس المال البشري، ولا (4) آثار خارجية (Externalities) مُهمّة، مع ما يتطلّبانه (هذان القطاعان) من تمويلات بنكية هائلة في وقتٍ كان العالمُ في تحوّلات عميقة في مستوى النظرية والتطبيق، وقد بدأ التقسيم العالمي للعمل يتحوّل مرْكزُه وتتغيّر طبيعتُه ويمكّن من صُعود قُوى صناعيّة جديدة في أمريكا اللاتينية وجنوب شرق آسيا، ممّا أضاع الوقت والجُهد وضاعف التكاليف الاجتماعية الطويلة الأجل الناجمة عن التغيير الهيكلي.
- في الثمانينات، كانت لتونس بعض الشركات العامٌة التنافسية مثل (STIA) و (Confort) و(STD) وغيرها، تشغّل يدًا عاملة نسبيّا ماهرة وتساهم في النمو الاقتصادي والتشغيل. الاّ انّ هذه المصانع قد تمّ اغلاقُ أغلبها في نهاية الثمانينات التي شهدت تقلّبات اقتصادية واجتماعية هدّدت السّلم الاجتماعية، وكانت أهم انجازات في هذا العشرية غير متناسقة تبدو غير ممنهجة مثل برنامج ازاحة الأكواخ في احزمة المدن وتشغيل مرسى القنطاوي، وتدشين سدّ هنا ومستشفى هناك وميترو هنالك في ظل التدهور الاجتماعي. وكأنّ هامش المناورة التنموية أضحى محدودا جدّا.
- ارتكزت الاستراتيجية التنموية في العقديْن التسعين والالفين على "التحرر التجاري الخارجي" وكانت استثمارات في البنية التحتية، أساسا في المواصلات وفي السياحة (ياسمين الحمامات والبُحيرة على غرار القنطاوي)، تركّزَ أغلبُها في السّاحل على حساب المناطق الدّاخلية وعلى حساب الخدمات العامٌة الاخرى من صحّة ونقل وكلّيات ومعاهد -سوى المعاهد التقنية العليا (ISET) التي اعطت أُكلها في البداية ثمّ اصطدمت بضيق الاسواق الصناعية الداخلية وتعاقب الاصلاحات التعليمية والتدريبية التي لم تكتمل ولم يتمّ تقييمها موضوعيا والتي كانت تبدو في معزل عن خطّة تنموية شاملة ترتقي الى مستوى التحديات المستقبلية. كما كانت "الخصخصةُ" العنوان الابرز في هاتيْن العشريتيْن، والاغفال عن الزراعة الذي أكّد هيكليّة العجز الغذائي. ولكن تمّ صُعود قطاع الاتصال والمعلومات والشركات الصّغرى (على نقاط قوتها وضعفها)، والتي لعبت دورا مهمّا في التشغيل بالرّغم من غياب سياسيات صناعية واستشراء الفساد والمحسوبية وضعف الحوْكمة.(يحتاج الى تفصيل).
- في الارجنتين، قدّم المنتخب التونسي عُروضًا كروية نالت فضول كبار الفنيين والمتخصصين في العالم، بحيث جاءت أغلب الاهداف من المُدافِعَيْن الأيسر (علي الكعبي) والأيمن (مختار ذويب) مع التبادل الآلي في المواقع بين عقربي وطارق وحرّيّة التصرّف للجناحيْن (تميم خاصّة) ، ممّا كان يُعتبر ابتكارا في عالم كرة القدم، إذْ لم يُصبح المدافعون أكثر نجُوميّة مثل كافو وروبرتو كارلوس وغالباتشيني وتارديلّي وفوكس وغيرهم إلاّ بعد سنوات فيما يُسمّى "بكرة القدم الحديثة". لماذا لم يتمّ البناء على طريقة عبد المجيد الشتالي السابقة لزمانها، بعد المشاركة في الارجنتين لكي نبقى أكثر من عشرين عاما بدون ان نترشّح الى نهائيات كأس العالم، لماذا لم ننجب سباحا مثل علي الغربي أو فاتن غطّاس أو القمودي في العاب القوى الاّ بقلّة وبعد عشرات السنين؟
- في العشر سنوات الاخيرة، علاوة على توقّف استراتيجية تحرير التجارة الخارجية وغياب موقف رسمي منها بعدم إرساء سياسيات تجارية أشمل وواضحة المعالم (قد يكون بسبب عدم الاستقرار الحكومي) ، كانت الوثيقة الرسمية الوحيدة المتضمّنة للتخطيط المستقبلي هي "المخطط الخماسي 2016-19" الذي كان خارج الادبيات والتجارب الحديثة مع عدم بنائه على المكتسبات التنموية ولو كانت ضئيلة، وعدم قطعه مع الماضي حرفيا.
ومن ناحية أخرى بدأ التونسيون يتعوّدون على احترام المؤسّسات والصناديق الاقتراعية والفصل بين السلطات واستقلاليتها -بالرغم من نقائصها وهي في طور التثبيت- يتمّ فسخها بجرّة قلم لكي نعيد "البناء" من الأوّل مع ما سيتطلّبه ذاك من تكاليف اجتماعية واقتصادية قد لا يقدر عليها التونسيون.