أنظر إلى صورة صديقي عمار الجماعي (الخال)، "متعنقر" ومادّا ساقيه أكبر من كسائنا عند سلطة الأدب في معرض الكتاب: أقل بكثير مما يستحقه من قدره الأدبي، أكبر بكثير من كثيرين جلسوا على هذا الكرسي، استحضر أسلوبه اللغوي النقي في كتابه "الطريق إلى محتشد رجيم معتوق"، ليس فقط بصفته شاهد صدق ونزاهة على جزء مؤلم من تاريخ الجريمة الوطنية المشتركة، بل خصوصا لوفائه في نقل تلك الآلام التي توجعنا جميعا حتى إن لم نعشها، قدرته على جعل الألم الشخصي ألما عاما عموميا إنسانيا، لم أقرأ بعد كتابه الثاني "برديات مريم" لكني متفائل به ولا أدري إن كان وجد من الرغبة ما يكفي لقراءة كتابي الذي أهديته له، عموما يبدو لي معرض الكتاب مكانا لا يرحب عادة بمثل هذا القادم من خارج المنظومة أيا كان إبداعه، أتساءل: هل يذهب أبو ذر الغفاري الأدبي إلى الشام ومعاوية الأدبي؟
حسنا، لنقلب السؤال: من يستطيع أن يعطينا هنا، قائمة في الروايات التونسية المتوجة في الجوائز الوطنية والتي نجحت في تأكيد تميزها المحلي بالترجمة إلى لغات أخرى؟ باهي؟ حتى التي تجاوز طبعها باعتبار شراءات الدولة النفاقية ثلاثة آلاف نسخة على اثني عشر مليون تونسي ومليون أجنبي؟ وإلا سيكون من حقي أن أقول إن تلك الجوائز والاحتفاءات لم تكن سوى إقصاء للأدب الحق، لأنه لكل شعب مبدعون، في بعض الدول تكون جوائز الأدب رشاوى أدبية فاضحة، لكن، لنتحدث عن الأدب والدولة؟
أنا، عندما كنت ولدا ريفيا متهورا في مكان مقطوع عن العالم، كنت قد قرأت، مدفوعا بالقلق والفضول أغلب ما كتب نجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وإحسان عبد القدوس ومحمد عبد الحليم عبد الله، مرورا بالمنفلوطي وروايات جورجي زيدان وصولا إلى يوسف السباعي ويوسف إدريس، ثم انفتح لنا العالم مع الأدب المترجم الساحر مع تأخر زمني بنصف قرن عن زمن تأليفه، في الأثناء، كان كل ما قرأت من أدب وطني هي تلك المجموعة القصصية القصيرة البائسة "سهرت منه الليالي" لعلي الدوعاجي، كم كرهتها وكم بدت لي سخيفة وغير مثيرة للاهتمام: بالسيف يحبوا يردوا منه كاتب، "القنطرة هي الحياة" و"سرقت القمر" لمصطفى الفارسي الذي لم أفهم إلى اليوم لماذا أصبح كاتبا وماذا كان يوجعه أصلا ولا لماذا أجبرونا على أن نطالع كتبه ونلخصها في الثانوي،
أيضا كان هناك كتاب تونسي آخر جعلني أكره الأدب التونسي حقا: "صلعاء يا حبيبتي"، أستاذ العربية نفسه الذي اقترحه علينا لم يجد ما يبرر تدريسه، ونحن بخبث المراهقة وقلقها كنا نحول العنوان إلى إيحاءات جنسية مخجلة لزميلاتنا في القسم، جعلنا ذلك الكتاب نكره الأدب التونسي واعتبرنا دائما أنه مثل مجموعة من القرارات الحزبية الفوقية التعسفية علينا، لا غير، وفي تلك السنوات التي تصنع فيها الذائقة والموهبة، كنا نحس أن الروايات التونسية المقررة ليست سوى خيبة رسمية للأدب.
لحسن الحظ، كانت هناك روايات الدقلة في عراجينها التي هي استعارة روائية موفقة من رواية جرمينال للكاتب الفرنسي إميل زولا، لكني لا أجد مبررا حتى اليوم لتدريس رواية حليمة للعروسي المطوي، وكنت أفضل عليها رواية "بودودة مات" لمحمد رشاد الحمزاوي، وهذا أكتبه على أمل أن يجد صديقي عمار الجماعي وزملاؤه في التعليم منفذا لتكسير منظومة أدباء السلط البذيئين من مفسدي الذائقة الأدبية عند الشباب،
بعدها، عشت بحكم مهنة الصحافة في الكوجينة السرية لصناعة الأدب والجوائز وكنت أعرف مسبقا مثل كثيرين قائمة الجوائز والموسمين بأوسمة الثقافة وقائمة صغار الكتاب والشعراء الذين تحولوا إلى ناشرين للحصول على الدعم على الورق وعلى شراءات الوزارة ومندوبياتها ومؤسسات الدولة حتى أصبح عدد الناشرين أكثر من عدد الكتاب في تونس، حتى أن العزيز الشاعر خالد النجار كان يقول: "لماذا نكتب أصلا؟ طالما ثمة دعم على الورق وشراءات الوزارة ؟"، وخالد النجار هذا، كان اقترح عليّ فكرة مجنونة منتصف التسعينات، قال لي جادّا: "أنت تعرف جيدا أدب أمريكا اللاتينية، اختر لنا رواية جيدة لماركيز مثلا، اشتر لنا منها عشر نسخ، نمزق غلافها وصفحاتها الأولى، ونعوضها باسم كاتب تونسي مجهول ونقدمها إلى واحدة من أشهر الجوائز الأدبية في تونس"، بدا لي ذلك بلا معنى، قال مؤكدا: "أنت لا تعرف شيئا عنهم، عندي 500 دينار، سأتبرع بها فقط للسخرية من المجتمع الأدبي في تونس، ننفقها في تغليف رواية ماركيز باسم كاتب تونسي، وسترى أنهم لن يفطنوا إلى الأصل لأنهم لا يقرأون، وأن ماركيز العظيم لن يحصل منهم حتى على تنويه، هذا إن لم تحدث فضيحة أن تسند له جائزة تشجيع بصفته كاتبا مبتدئا"،
عن كتابي الأول: أحباب الله، حصلت على 480 دينارا نقدا على خمس دفعات و80 نسخة أو أكثر قليلا، ورغم أنه كان في قلب أدب السجون، فإنه لم يحظ بأي تنويه غير ما نشر في الصحافة وكتبته بنفسي ولم يهتم به أحد غير بعض الأجانب في عامي 2012 و2013 ومخرجة كانت تنوي تحويله إلى عمل وثائقي قبل أن تتزوج بمنتج ونتهي الموضوع، بعدها كثر كتاب أدب السجون ممن لا يفرقون بين الجيول geôle والسجن، بل إن بعضهم كان من كتاب النظام وومادحيه فركب الموجة ليصبح نجما أدبيا فامتلأ فضاء الأدب بضجيج الطحالب الأدبية، وقد أكد صديق أعرفه أن أكثر من نصف من تحدثوا عن أدب السجون لا يعرفون السجون أصلا ولم يدخلوها حتى للزيارة، أما كتابي الثاني عن نشوء أول خلايا الإرهاب في الشمال الغربي فقد حصلت منه على 600 دينار على دفعتين و60 نسخة ولم يهتم به سوى طالب علم نفسي اجتماعي أعد دراسة نفسية عن الإرهاب والشخصيات الإرهابية، لكنه توفي بمرض غامض وذهب إلى رحمة الله قبل أن يجد من يهتم به، عموما: مقال جيد في صحيفة أوروبية أو خليجية من 1200 كلمة يجلب 600 دينار تدفع نقدا على مرة واحدة، رغم أن الرواية تتطلب 80 ألف كلمة وبناء صعبا شاقا وأسلوبا لا يقل صرامة وصعوبة عن صعوبة حياة عبد حبشي على طريق الهجرة إلى مكة، على رأي الصغير أولاد أحمد،
لا أدري على ما حصل صديقي عمار عن كتابيه، أخشى أن يكون خضع مثل أفضل الكتاب المكتئبين الباحثين ببسالة فكرية وأخلاقية عن مبرر للكتابة مثلي في هذا الوطن الكئيب، حيث يدفع الناشر للكاتب 150 نسخة "لكي تبيعها لأصدقائك"، إلي ناقص الفين، إلي يقلك مش عملتوا تخفيض في المعرض بنصف الثمن، وإلي يقلك زوز كيلو دجاج خير منها واستهانة الناس بالكاتب لأنه لم يعد نصه رأس المال، بل شكله التجاري المتسول، أمورك صاحبي،
قرأت عمار الجماعي، وكنت مسلحا بصورته وبأغاني الجنوب وثقافته المتميزة، ومازلت أعتقد أن أشياء جميلة كثيرة يجب أن تظهر من هناك، وعندما رأيته هناك متعنقرا دون موعد، قلت لنفسي: "يا إلاه الفقراء، أرجو أن لا يكونوا قد سدوا به ثغرة غياب أحد جماعتهم"، ليغفر لي صديقي عمار ذلك، أما أنا فلا أثق بهم، لقد ثبت لي في مهنة الصحافة أنهم هناك لأجل عمولات الوزارة وليس لأجل "أش يوجع فينا" ونريد أن نحوله إلى أدب إنساني كوني، كما يفعل آباؤنا منذ مئات السنين"،