صديقي العربي في أي مكان كنت من الأرض، يكتب إليك مواطن تونسي يشعر بالعار أن رئيسه قيس سعيد. ويزيد العار عارا أن هذا المواطن (إن كانت له بعد صفة المواطن) قد انتخب هذا الرئيس ودعا إلى انتخابه، ظنا منه أنه رجل الحرب على التطبيع مع الكيان الغاصب لأرض فلسطين. وهو يكتب بعد أن صار الاعتذار عن هذا الحماس الغبي عارا آخر يدين كل متعلم لم ينتبه إلى الفضيحة التي ساهم في صنعها. وغير مجد هنا العودة إلى التساؤل عن سبب الخديعة التي تخفت تحت إيهاب محاربة الفساد في الداخل ومحاربة التطبيع في الخارج.. لقد خان التونسي حدسه فوقع ضحية غفلته.
كلما خرج هذا الرئيس على الناس من عليائه وجدناه يتحرش بالجميع، ويعمل على نقض عرى الدولة وتقاليدها التي أرستها أجيال متتابعة بحثا عن عيش مشترك تحت ظل القانون وفي حماية مؤسسات ديمقراطية، وبذلت في ذلك دماء ودموع كثيرة. كيف سيمحى عار قيس سعيد من تاريخ تونس؟ تزداد الفضيحة قتامة عندما تعرف أن كثيرا من أهل البلد سعداء بهذا العار؛ يشربونه مع قهوة الصباح ويتلمظون.
عودة إلى التحرش بالنهضة
قال كثيرون وأولهم جماعة النهضة إن انقلاب 25 جويلية كان ضدهم وضد حزبهم ولم نُماشِهم في القراءة، فالانقلاب صار ضد الديمقراطية وضد الدولة نفسها. وكان رفضنا للقراءة النهضوية إيمانا بأن وضع ما قبل 25 جويلية كان كارثيا، وكان لجمود حزب النهضة ومناوراته في المربعات الضيقة دور كبير في تردي الوضع، لكن عندما تم الاقتصار على توريط حزب النهضة وحده في وضع ما قبل 25 جويلية وتبرئة كل المشاركين في الحكم وخاصة النقابة، انكشفت الخلفيات الاستئصالية للذين ساندوا الانقلاب منذ ساعاته الأولى.
أخلف المنقلب موعده مع هؤلاء الاستئصاليين فبدؤوا ينفضّون من حوله ويهددونه، فعاد في الأيام الأخيرة إلى نقطة خلافه معهم ليعلن ما يشبه الحرب على الحزب أملا في استعادتهم حوله. وذلك عبر الضغط على القضاء، وأمره بشكل مباشر بتجاوز القوانين السارية في التقاضي، مثل اعتماد تقارير محكمة المحاسبات كأدلة إدانة دون المرور بتحقيق قضائي ومحاكمة قانونية.
حتى اللحظة أظهر القضاة تمسكا حاسما باستقلال المرفق القضائي ورفضه التعليمات، لكن ذلك لن يدوم طويلا، فالمرجح أن المنقلب ماض قدما في تنفيذ أجندته الخاصة لتفريغ الساحة السياسية من كل خصم محتمل قبل المرور بقوة إلى فرض تصوراته السياسية أي نظامه المجالسي المتخيل. وهنا يظهر له حزب النهضة منافسا لم تمكن إزاحته من الساحة بالشارع، ولذلك يلجأ إلى كسر هيبة القضاء واستقلاله لاستعماله في تنفيذ رغبته، وهذا سر عودته إلى التحرش بالنهضة. وهذه بدايات استشعرها الحزب فاستبق بعقد ندوة صحفية يوم 6 ديسمبر، وأعلن ما يشبه النفير في صفوفه للتصدي لما قد يلحق الحزب، فهل تقدر النهضة على التصدي بمفردها لهذه الحرب المعلنة؟
قمة العار العودة إلى نظام ابن علي
التحضيرات لحرب أهلية تذكرنا رغما عنا بأيام ابن علي، بعد أن مد رجله في الحكم أول التسعينات وشرع في تركيب ملفات قضائية لحزب النهضة. والجميع يتذكرون المجزرة، والجميع يتذكرون نتائجها على الديمقراطية وعلى الحريات وعلى البلد برمته.
لقد تغيرت معطيات كثيرة على الأرض، واكتسب حزب النهضة مناعة في الداخل والخارج، وصار محاورا دوليا في شؤون تونس برغم كل المضايقات التي كابدها منذ أن صار له وجود قانوني بعد الثورة. لكن نية شن الحرب عليه لا تزال هوى الكثيرين، ويبدو أن هذا الأمر سيتخذه المنقلب ليعيد تأليف أنصار انفضوا عنه.
العار أن درس ابن علي لا يزال ماثلا ومؤثرا في لحظة تونس بعد الثورة، والحياة السياسية لم تستقم داخل الديمقراطية لهذا السبب بالذات. والعودة إلى أسلوب ابن علي وخططه هي ردة بالبلد إلى زمن القمع والمطاردة وتيتيم الأطفال، وبالتالي نقض المنجز الثوري خاصة في مجال الحريات. وكيف لا يمكن النظر إلى الأمر كعار وطني؟
فبعد مكسب الحرية والذي لم يساهم قيس سعيد فيه حتى بمقال في جريدة طيلة حياته الجامعية؛ يصبح هدفا لبقائه في سلطة مغتصبة.
نقدر أن هناك صعوبات كبيرة تعترض هذه الرغبة المرضية لدى الاستئصاليين بمن فيهم المنقلب؛ أهمها غياب كل دليل على فساد قيادات النهضة، لكن مجرد التحضير لمعركة ابن علي مرة أخرى أو الشروع فيها سيطلق عملية تخريب سياسي وأمني واقتصادي؛ لم يعد أحد قادر على تخيل أثره في المستقبل المنظور وعلى مصير البلد في وقت أطول. لم يملك ابن علي دليلا واحدا على تسلح حزب النهضة، لكن القضاء الذي كان طوع بنانه حاكم الناس بتهم من قبيل محاولة إسقاط طائرة الرئيس ببندقية صيد.
العار أن نعود إلى مناقشة هذا بعد سنوات عشر من الثورة، والعار الأكبر أن من يجبرنا على هذا النقاش وصل سدة الحكم بشرعية الصندوق الانتخابي وبأصوات حزب النهضة أيضا. عار أن يصل منتخب إلى سدة الحكم بقوة ثورة، فيعيد بلاده ثلث قرن إلى الوراء.نكابد عارنا ونخجل برئيسنا
هذه خلاصة مُرّة لكنها واقعية، خجلون برئيسنا آسفون لمصير تجربتنا، وليس لدينا حلول قريبة يمكن أن ترمم ما خربناه بأيدينا ذات انتخاب مغشوش، فالرجل ماض في غيه لا يردعه رادع في الداخل ولا في الخارج. نعاين واقعا يسوده عار لا يمحوه الدهر، وخواتم الكلام أشد مرارة وأبعد ما تكون عن التحليل السياسي أو العلمي، لذلك نعاين العار المتراكم ونتطلع إلى معجزة، لكن بقية العقل التي لم تحضر يوم الانتخاب لا تسعفنا بخيال كاف لابتكار المعجزة المعزية من الخيبة. كيف نجد تلك الجمل الاعتبارية الموغلة في الحكمة لتبرير الفضيحة والعار؟ لنحمل عارنا ونتوقف عن بيع صورة تونس العبقرية ذات التجربة المتميزة، فهذا أدعى لستر العار.