300 مليون دولار و27 اتفاقية مع الشقيق الأكبر، مرحبا، لكن اسمحوا لي أن أنظر إلى المسألة بشيء من الحذر بسبب التاريخ الحديث في مواجهة هذا البذخ اللغوي غير الواقعي في توصيف الزيارة والعلاقة، واصبروا معي: حتى بداية الثمانينات كنا في الحدود نذهب إلى الجزائر دون جواز سفر، وكانت زردة سيدي يوسف تجمع سكان البلدين لثلاثة أيام للتبادل الثقافي والتجاري وحتى الزواج، وكان ثمة خط حديدي يتوقف للأسف في محطة غادر الدماء لأنه زمن الاستعمار الفرنسي كان يستمر حتى عنابة وكان يمكن سماع الباعة الجزائريين ينادون "القرعة موناضة بدينار" (قارورة مشروبات غازية بدينار جزائري وهي وقتها من أردأ ما يمكن أن تتذوقه، الدينار الجزائري وقتها 70 مليما) لذلك كانت المحطة مكانا لتجارة قوارير الكوكا المفقودة في الجزائر وسراويل الدجين مقابل ماعون الإينوكس الممتاز وبطريات السيارات،
النقل هو أول علامات حسن النوايا بين الشعوب لذلك فإن توقف هذا الخط أكبر دليل على أننا لا نعرف ماذا نريد من بعضنا حقا حتى اليوم، ففي 2016 أعلنت الحكومتان عن إحياء الخط الحديدي لكن العملية فشلت لصعوبتها، ثم عادوا للحديث عنه في 2017 وأعلنوا حتى عن ثمن التذكرة 40 دينارا تونس عنابة، لكن لا شيء حدث، قالك لعدم القدرة على ضمانة المسألة الأمنية وكان لابد من سكانار لقراءة أفكار المسافرين بين البلدين، وحتى اليوم، ما يزال المرور في المعابر البرية محنة وشقاء ومازلت أرى سواق الشاحنات الضخمة ينامون في الحدود لأن العبور يتطلب أكثر من يوم وليلة، ورافقت مرة فلاحا من العائلة إلى الحدود في محاولة لفك أسر شحنة من العنب التونسي اشتراها تاجر جزائري وفشلنا، فعاد العنب فاسدا،
أنا أعرف موضوع تونس الجزائر جيدا، وعشت في مراهقتي في عالم مشترك على الحدود وكان يدرس معنا تلاميذ جزائريون يعودون إلى مبيت معهد الكاف صباحات الإثنين محملين بالشوكولاطة الجزائرية وعلب تبغ 2A مر المذاق والهقار، كما أني أدركت زيارة الزعيم الهواري بومدين إلى بورقيبة في إقامته في مدينة الكاف، وروى لنا الحاضرون من أهلنا أن الهواري مازح بورقيبة: "الكاف تاريخيا تتبع الجزائر"، فرد عليه بورقيبة: "نعم، لكن عنابة كانت تتبع تونس"، وترسخ عند الكثير منا اعتقاد أن الجزائر أقرب إلينا من العاصمة تونس، كما أني أدركت آلاف الجزائريين في الكاف سواء من مخيم اللاجئين في المكان الذي أصبح دار ثقافة أو في مقر الحكومة المؤقتة الذي أصبح مقرا لاتحاد الشغل وكذلك ممن تأخرت بهم العودة إلى وطنهم وفيهم من خير البقاء في تونس بسبب التصاهر والامتلاك في تونس،
بعد أكثر من 60 عاما عن استقلال الجزائر، عجزنا عن العودة إلى ما كنا عليه تحت الاستعمار من حرية الحركة والتكامل التجاري، عجزنا عن إعادة خط سكة حديد الذي هو عصب الحياة، مازالت الطريق الأفضل والأسرع لمرور البضائع هي التهريب، وعندما أصبح فلاحو باجة وجندوبة يسكبون الحليب في الأودية عرض الجزائريون في القالة والطارف وقالمة شراء كل فائض الحليب، لكن مرور نماذج منه للتحليل الصحي في الجزائر تكان يتطلب إيقاظ وزير المالية التونسي بعد منتصف الليل لاستشارته فيما إذا كان يجوز للبيروقراطية الحدودية السماح بمرور حليب تونسي ولو كان في شكل أنابيب تحليل إلى الجزائر، لذلك فشلت العملية واخترنا سكب "نعمة ربي" في الأودية وإفلاس الفلاحين،
وعندما فقدت البطايا والبصل من السوق التونسية، عرض فلاحو وادي سوف علينا فائض إنتاجهم الذي يعاني من كلفة النقل نحو الشمال، لكننا فضلنا استيراده من آخر الدنيا، حاجة أخرى: بعد الثورة، اكتشف صغار الفلاحين في باجة وجندوبة وسليانة سوقا في مدينة القالة الساحلية (40 كم عن الحدود) مليئة بمعدات الفلاحة وقطع غيارها بأسعار تقل بـ 70% في المعدل عن مثيلتها التي تحتكر توريدها بعض اللوبيات، ونشأت حركة حدودية نشيطة في ظل الحريات الجميلة بعد الثورة مباشرة فكانت عشرات السيارات تنقل التونسيين إلى هذه السوق فجرا حتى تفطن الجماعة بعد أشهر إلى نقص فادح في مرابيحهم، كلموا البيروقراطية الحدودية فتم حجز البضاعة وانتهى الأمر.
ثمة أشياء لا تصدق لطرافتها في عوج البيروقراطية الحدودية: عندما يريد تونسي أن يذهب إلى الجزائر بصفة قانونية، فعليه أن يشتري عملة الأورو من تونس، ثم يحولها في الجزائر إلى الدينار الجزائري، حسنا، إن سكان الحدود يفضون مشاكلهم بطريقة أفضل من ذلك بكثير: تستطيع أن تذهب إلى الجزائر دون مليم، يعطونك الفلوس بالكلمة بعد أن يقولوا لك بقداش الراس (تعريف قيمة التحويل في السوق البيضاء جدا بين الدينار التونسي والجزائري) وتقضي ما تريد، الأشياء التي لا تستطيع تمريرها عبر الحدود، سوف تأتيك إلى بيتك عندما تريد، الباقي خزعبلات حكومية إذ ستعيد المال بالدينار التونسي لأحد ما ستلتقيه في إحدى مدن الحدود حيث الكلمة بين الناس أهم من الدولة، مع تحياتي للجميع.