بعد عشر سنوات من مناخ سادت فيه الحقوق والحريات في تونس على إثر سقوط الدكتاتور بن علي، وعرفت فيه البلاد انتخابات دورية على الصعيد الرئاسي والتشريعي اعترف بها كل العالم الحرّ. وبعد ازدهار عاشته أنشطة المجتمع المدني في شتى المجالات، بما أهّل تونس لأن تكون واحة للديمقراطية والسلام في محيط عربي وإقليمي متوتّر لا يعرف إلا الحرب الأهلية (ليبيا وسوريا مثلا) والاستبداد والتسلط والطائفية (باقي الدول العربية)، لم يتردد الرئيس التونسي قيس سعيد، الذي وصل إلى الحكم في أواخر2019، في أن يعلن ليلة 25 جويلية 2021 عن انقلابه على مسار الانتقال الديمقراطي وعلى دستور2014 الذي جاءت به ثورة 2011 وبالتالي على كل المؤسسات التي انبثقت عنه.
فمنذ ذلك الوقت وقيس سعيد لا ينفكّ عن اتّخاذ جملة من الخطوات والقرارات التصعيدية التي لا تصب إلا في نسف الأسس التي قامت عليها الديمقراطية في تونس: فلم يكتفِ بالاستحواذ على صلاحيات رئيس الحكومة هشام المشيشي ورفض الختم على بعض مشاريع القوانين والامتناع عن الحوار مع الأطراف الاجتماعية والسياسية، بل مضى في تصعيده حتى عطّل وصول التلاقيح الخاصة بجائحة كوفيد إلى التونسيين. كما لم يتردد في إعلان تدابيره الاستثنائية، فبادر بغلق البرلمان مستعينا بالجيش، واستحوذ على كافة صلاحيات السلطتين التنفيذية والتشريعية من خلال الأمر 117 الذي أصدره في 22 سبتمبر 2021، وحلَّ الهيئة الوقتية لمراقبة دستورية مشاريع القوانين.
ولم يلبث الدكتاتور الجديد حتى اتجهت نيّتُه إلى العمل على تركيع القضاء والضغط عليه خدمة لمآربه الخاصة، وإلى العمل على إرساء نظام هلامي قاعدي على شاكلة النظام الجماهيري الذي كان سائدا في ليبيا زمن القذافي ودفع الشعب الليبي ثمنا باهظا للتخلص منه، ولم يبق الا أن يعلن نفسه مرشدا أعلى للثورة التونسية على غرار خامنئي في إيران.
وعلى عكس ما ادّعاه قيس سعيد منذ بداية الانقلاب من أن تعليق الدستور التونسي لم يشمل باب الحقوق والحريات، فقد شهدت الحقوق والحريات في تونس اعتداءات خطيرة في شتى المجالات: فمنذ الأيام الأولى للانقلاب، تمّ وضع العديد من الشخصيات الوطنية في الإقامة الجبرية، قبل أن يقع الإفراج عنهم بعد ذلك. كما تم منع عدد من رجال الأعمال والنواب والقضاة والمسؤولين بالدولة - دون أي إذن قضائي - من حقهم في السفر، وأودع العديد من النواب بالسجن على أساس تهم كيدية لمحاكمتهم عسكريا في قضايا مدنية، في خطوة لم تعرفها تونس من قبل تقوم على إقحام المؤسسة العسكرية في الحياة المدنية والسياسية، وتحرم المتهمين من التمتع بحقوقهم المدنية. وفضلا عن ذلك تم إصدار بطاقة جلب في حق الرئيس السابق المنصف المرزوقي، بسبب موقفه المناهض للانقلاب، ودعوته الحكومات الأوروبية إلى الامتناع عن مساندة الدكتاتورية الناشئة.
ولم تقف سلطة الانقلاب عند هذا الحدّ، بل وصل بها الأمر إلى التضييق بشدّة على حركة "مواطنون ضد الانقلاب"، التي هي حركة مواطنية مناصرة للانتقال الديمقراطي وتتكون من مجموعة من الشخصيات الوطنية والحقوقية والسياسية: فاعترضت على حقّ مسيّريها في عقد ندواتهم الصحفية في أكثر من مرة، وواجهت تظاهرات نشطائها بشتى ألوان الهرسلة والاستفزاز.
كما بلغ من قمعها واستهدافها لحرية الصحافة أيضا أن أغلقت مكتب الجزيرة دون حكم قضائي أو قرار إداري، وأوقفت أكثر من وسيلة إعلامية معارضة عن البث (قنوات الزيتونة ونسمة وحنبعل، مثلا)، بل ولم تتردّد في محاكمة عدد من الصحفيين والزجّ بهم في السجون، في سابقة خطيرة وغير مسبوقة تؤشر بقوّة على درجة التراجع الكارثيّ في حرية الصحافة في تونس ما بعد الثورة. ويضاف إلى كل ذلك ما تعرضت له الجمعيات من صنوف الحصار والتضييق.
أما الحق في العلاج فقد أصبح النواب محرومين منه، حتى وإن أفضى الأمر بأحدهم أو بأحد ذويه إلى الوفاة. والشاهد عليه وفاة زوجة النائب عماد الخميري عضو مجلس نواب الشعب ورئيس كتلة حركة النهضة، رغم أنه نبّه في تدوينة له نشرها على صفحته بالفايسبوك ومؤرخة في 3 نوفمبر 2021 إلى قلقه من تدهور صحة زوجته وإلى خوفه على حياتها، خاصة بعد حرمانه من حقه في التغطية الصحية بفعل التجميد الذي فرضه قيس سعيد على نواب مجلس نواب الشعب.
تصريحات قيس سعيد المستهترة بتصنيفات منظمات الترقيم السيادي، وتعامله ببرود مع أكثر من دولة عرفت بمساعدتها لتونس ودعمها للانتقال الديمقراطي (على غرار ألمانيا والولايات المتحدة الأمريكية وقطر وتركيا)، إلى جانب تراجعه عن تعهداته لكل الأطراف الخارجية باحترام الدستور والعودة إلى الشرعية والاحتماء بشعارات "السيادة الوطنية" و"الإرادة الشعبية".. كل ذلك وغيره جعل تونس تعيش في شبه عزلة دولية لم يسبق وأن عاشتها من قبل.
جدير بالذكر أيضا، أن قيس سعيد الذي خاض حملته الرئاسية تحت شعار "الشعب يريد"، وإن لم يزعم أنه يحمل برنامجا اقتصاديا واجتماعيا للحكم، فإنّه يتّضح من خلال حملته التفسيرية (التي انطلقت منذ 2012) أنه كان ضد اعتماد "الديمقراطيات التمثيلية" ويدافع عن نوع آخر من الأنظمة السياسية تقوم على "نظام الاقتراع على الأفراد" و"سحب الوكالة" و"إلغاء الأحزاب والجمعيات" في ظل نظام رئاسوي يطلق يد الرئيس في كل شيء ويُفرده بـ"الحل والربط".
كل ذلك دفع مجموعة من الشخصيات الوطنية: من المجتمع المدني ومن النخب الجامعية والحزبية والنواب إلى التوقيع على عريضة يعبّرون فيها عن رفضهم للمسار المجهول الذي وضع قيس سعيد تونس فيه، مشددين على تمسكهم بالديمقراطية التمثيلية وعلى تخوفهم الكبير من أن تنزلق البلاد نحو التسلط والدكتاتورية من جديد (كما كان الأمر زمن الدكتاتور زين العابدين بن علي) ومن أن ترجع القهقرى إلى حاضنة الدول التسلطية والمستبدة كما حصل مع مصر العربية.
ومن بين الشخصيات التي وقّعت على هذه العريضة التي نجحت في حشد عدد هام من الموقعين: الرئيس السابق الدكتور محمد المنصف المرزوقي، ورضا بالحاج المستشار الأسبق لرئيس الباجي قايد السبسي، ونائبة رئيس البرلمان سميرة الشواشي، وأستاذ الفلسفة السياسية منير كشو، وأستاذ القانون الدستوري جوهر بن مبارك أحد أبرز الوجوه المعارضة في "مواطنون ضد الانقلاب "، وعبد الرزاق الكيلاني العميد الأسبق للمحامين، وعبد الروؤف بالطبيب الديبلوماسي والسفير السابق.
على أنه لا بد من الإشارة إلى أنّ العديد من معارضي مشروع قيس سعيد الدكتاتوري، وإن لم تشملهم هذه العريضة، فقد عبروا بوضوح عن مواقفهم الرافضة لما أتاه قيس سعيد من تعدّ صارخ على الدستور والديمقراطية ومن انتهاك صريح للحقوق والحريات، وذلك إما عبر بعض المواقع الإلكترونية، أو عبر تدويناتهم على صفحات الفايسبوك، كما هو الشأن مثلا بالنسبة إلى أستاذ القانون العام والمفكر عياض بن عاشور، والفيلسوف "أبو يعرب المرزوقي"، والقاضي أحمد صواب، والمعارض السياسي البارز أحمد نجيب الشابي، والأستاذة والحقوقية البارزة سناء بن عاشور، ورئيسة هيئة الحقيقة والكرامة سهام بن سدرين..
وما من شك في أن تونس اليوم دخلت حقبة جديدة من الصراع بين أنصار الديمقراطية ودولة القانون والحريات وأنصار الدكتاتورية والتسلط، وأن تونس الديمقراطية باتت أحوج من أي وقت مضى الى تضامن كل القوى الخيّرة سواء في الداخل أو في الخارج.