الفقر الفكري والسياسي للمنقلب ولمن أحاط به فرحًا بحركته الانقلابية ليس محل شكّ عندنا، لقد حظيت تونس بانقلاب أحمق وقد بدأت بشائر سقوطه منذ ساعاته الأولى، رغم أنه يعيش شهره السادس دون أن يفطن إلى أن الأرض تميد تحت قدمَيه.
تضيق النفوس من وجوده، وينتصر الإحباط أحيانًا، لكن استعادة الوقائع وترتيبها بعقل بارد يكشف أن الانقلاب يوحِّد ضدّه كل الوطنيين الغيورين على الديمقراطية، وهو يحشر نفسه مع بقية باقية من الفاشيين والاستئصاليين في زاوية العجز، حيث تنعدم الحلول رغم امتلاك القوة الصلبة التي تتحول إلى عبء عليه.
لقد أحدثَ الانقلاب فرزًا على قاعدة الإيمان بالديمقراطية، وأخرج الأدعياء عراة أمام الشارع الحائر، فتميّز المؤمنون في صف يزداد قوة وتتوافق عناصره في اتجاه كتلة تاريخية ستحكم ما بعد الانقلاب وإن طالت مدته... سنفرط في التفاؤل رغم بؤس الانقلاب.
نصّ الثورة الغائب
تلقفت المطلبية الاجتماعية الثورة منذ أيامها الأولى، وكان للنقابة المشبوهة دور مركزي في تحريف الثورة عن مسار التغيير الجذري للسياسات التي اتّبعها نظام ابن علي، فكان فعل الحكومات التي تتالت على البلد هو إعادة إنتاج نظام ابن علي زائد شحنة وقاحة محترفة يروِّج لها إعلامه.
وساهمت النخب المستريحة في جرّ النقاشات إلى المسائل الدستورية والشكلانية، حتى أن حقوق المثليين أخذت حيّزًا أكبر من برامج الإصلاح الزراعي وإصلاح النظام التعليمي، وهي مطالب مركزية للثورة وإن لم تعبِّر عنها الثورة بنصوص دقيقة، لقد كانت ثورة بلا نصّ مؤسِّس رغم النوايا المعلنة.
في السياق المنحرف دخل الانقلاب وفرض المزيد من النقاش الشكلاني الذي لم يصنع وفاقًا وطنيًّا حول مطالب الثورة، عجزَ الانقلاب الذي نعاين، هو في جوهرة عجز التقدُّم على طريق دائري بلا مخرج في أي اتجاه.
هذا الفراغ يستدعي الآن كتابة هذا النص المؤسِّس ولو بعقد من التأخير، والنص يستدعي من يحمله ونرى "مواطنون ضد الانقلاب" بما هم تيار متعدد وجامع نواة ممكنة لكتابة هذا النصّ ودفع كلفته، وإذا سلّمنا بصدق الخطاب الديمقراطي الصادر عن هذه الحركة المقاومة للانقلاب، فإن بشائر تصحيح مسار الثورة قد برقت.
بعض الشروط الضرورية لبناء الكتلة التاريخية
لا نحتاج التذكير بكل تراث غرامشي حول الكتلة التاريخية وشروط بنائها، فالحالة التونسية تفرض خصوصيتها. هناك عائق دمّرَ تجربة بناء المعارضة الديمقراطية زمن بورقيبة، واستمرَّ وتفاقم زمن ابن علي وظلَّ فاعلًا مدمِّرًا بعد الثورة، وهو العقل الاستئصالي الذي منع كل لقاء بين مكوّنات ساحة سياسية تعددية بالقوة وبالفعل.
حشر النقاش السياسي في هذه الزاوية (حداثي ضد إسلامي) كشفَ فقرًا فكريًّا كبيرًا وعجزًا فاضحًا.
ظلت الساحة مقسومة بين إسلاميين مضطهدين وحداثيين إقصائيين، ولم تفلح الثورة في ردم الهوة بين هذين الصفَّين، بل إن منظومة حكم ابن علي تسرّبت من الأخدود الفاصل بين هؤلاء وانتعشت ولم يمكن تحرير البلد من قبضتها، ونعتبر الانقلاب بعض ثمرة هذا النزاع المتخلِّف.
حشر النقاش السياسي في هذه الزاوية (حداثي ضد إسلامي) كشف فقرًا فكريًّا كبيرًا وعجزًا فاضحًا، لكن الانقلاب قدّمَ خدمة يمكن اعتبارها كسرًا لهذا الجمود، لقد كشف بالفعل والوقائع أن الحداثي انقلابي وأن الإسلامي يقف في صف الديمقراطية.
كل مكونات صفّ من يسمّون أنفسهم بتيار الحداثة ساندَ الانقلاب ودافع عن تعدّيه على الدستور والمؤسسات، ولا يزال أغلبه يقف معه راجيًا منه مواصلة الصراع على القاعدة نفسها، والتقى فعليًّا وموضوعيًّا مع حزب الفاشية، وهي صيغة وقحة من نظام ابن علي نفسه.
في الجانب المقابل ظهر الاسلامي منذ ساعات الانقلاب الأولى مدافعًا عن الدستور والشرعية التي أفرزها صندوق الانتخاب، ورفض الانجرار إلى العنف كوسيلة رجعية للعمل السياسي، رغم الاستفزاز والاستدراج المتكرر.
لقد كسر حزب النهضة وبفعل الانقلاب نفسه الاستقطاب على أُسُس حداثة ضد إسلام، وفرض بالمطاولة فرزًا جديدًا (ديمقراطيون ضد انقلابيين وفاشيين)، وعلى هذا الأساس فتحَ الباب لمكوّنات ديمقراطية أخرى للتنسيق معه تحت عنوان جامع "مواطنون ضد الانقلاب"، وهو باب مفتوح لكل من يؤمن بالفعل الديمقراطي تحت سقف الدستور المُجمَع عليه.
لقد وُضعت الأُسُس الأولى لبناء الكتلة التاريخية، نحن نشهد (وهذا إفراط في التفاؤل) أول خروج أو انعتاق من الاستقطاب التقليدي الذي حكم المشهد السياسي منذ أكثر من 50 سنة، ونلاحظ بقاء الصف الاستئصالي مدّعي الحداثة يقف في فراغ الانقلاب وحيدًا.
تنوُّع تركيبة "مواطنون ضد الانقلاب" واتّساع مساحة خطابها الديمقراطي، يعدُ بإمكان بناء جبهة ديمقراطية واسعة تتخلّى بصوت صريح عن التوصيف الأيديولوجي الإقصائي، وهي تخرج النقاش الآن من دائرة الإقصاء المغلقة إلى أفق الجدال السياسي حول البرامج والبدائل التي انتظرها جمهور عريض نفرَ من السياسة والسياسيين، الذين جرّوه إلى مربع الاستئصال وضيّعوا مستقبله (وهذا نقاش مرحّب به مهما كانت حدّة الأصوات التي ستتكلم داخله).
الطريق لا تزال طويلة
أن نكتب بكثير من التفاؤل عن الوعد الديمقراطي القادم لا يخفي علينا أن الطريق طويلة، وأن الوصول إلى درجة عالية من التجانس بين مكونات الصف الديمقراطي تتطلب صبرًا وجهدًا وتضحية بالذات، وهناك عوائق كثيرة (نزعم أن الروح الوطنية قادرة مع الوقت على تذويبها)، فهناك الزعاماتية الكامنة في كل من تقدّمَ للحديث في الشأن العام، وهذا مرض عضال ومستشرٍ.
هناك اختلاف في الأحجام الفعلية لمكونات الصف الديمقراطي.
وهناك إيمان قديم بصورة لتونس تدور حول مركزية النقابة، وتعطي للنقابة دورًا مقدسًا رغم فضيحة إسناد النقابة للانقلاب ووقوفها في صف التيار الاستئصالي، والنقاش حول دور النقابة ومكانتها مستقبلًا ما زال بعيدًا عن المربع الديمقراطي، هناك وثن في تونس اسمه النقابة ما زال كثير من الديمقراطيين يعبده بلا نقد، وهذه معركة كبيرة في طريق الفرز الديمقراطي.
هناك ميراث يسمّيه البعض "دولة اجتماعية في تونس" لم يخضع للنقد فعلًا، رغم كل المؤشرات على أن التجربة كانت تجربة دولة ريعية (رشوة طبقات) لا تجربة ديمقراطية اجتماعية فعلية، وإذا تقدّمَ الديمقراطيون نحو كتابة نص الثورة المؤسِّس، فإن نقد هذا التراث يوشك أن يعصف بالتوافقات السياسية الظاهرة (الهشّة بعد).
هناك اختلاف في الأحجام الفعلية لمكونات الصف الديمقراطي، وإذا تقدمت هذه التركيبة ولو بعد حين إلى الحكم (ونراها تفعل)، فإن القسمة ستكون عسيرة، وإذا لم تظهر الاستعدادات للتنازل عن الحصص قبل عدالة القسمة بحسب الحجم في الشارع، فإن خطر المحاصصة سيعصف بالتوافقات كأن لم تكن.
هذه احتمالات على الطريق الطويلة وجب أن تؤخذ بعين الاعتبار في هذه المرحلة، وأن يتحلّى الديمقراطيون بالمزيد من الصبر عليها لاستباق آثارها المدمرة، لكن رغم ذلك نرى أن الخروج من دائرة الاستقطاب على أُسُس "حداثة ضد إسلام" إلى دائرة "ديمقراطية ضد انقلابية وفاشية" يشكّل خطوة تأسيسية لكتلة تاريخية انتظرها الكثيرون، ويبدو أن الانقلاب قد سهّل خروجها من ركام الخلافات والنقاشات المغلوطة التي سادت قبل الثورة وبعدها.
نفرط في التفاؤل وننتظر.