هكذا استدرج قيس سعيد الجيش لإدارة الشأن المدني تدريجيا بعد أن سرّب السياسة إلى الثكنات

عندما أعلن قيس سعيّد يوم 25 جويلية عن تدابيره الاستثنائية كان المكوّن العسكري يستحوذ على مشهد الإعلان عن الانقلاب، فقد انطلق الأمر باجتماع طارئ للرئيس مع القيادات العسكرية والأمنية ليمرّ بعد ذلك إلى إعلان قراراته في حضرتهم.

ولا يبدو الأمر مستغربا فلطالما حرص قيس سعيّد على الظهور في حضرة البدلة العسكريّة أو استحضارهم في خطاباته وكلماته.

قبل الانقلاب كان سعيّد يزور الثكنات والقواعد العسكريّة ويخطب وسط الجنود والضبّاط وينتقد أداء السلطة المدنيّة في إدارة الشأن العام مقابل الثناء على المؤسسة العسكريّة، فكان ذلك بداية تسلل خطاب السياسة تحت خوذات الجيش، واستدراجه إلى الشروع في بسط النفوذ على الحياة المدنية.

ويبدو أن إقحام المكوّن العسكري في الحياة المدنيّة والدفع نحو تكليفه بتسيير شؤون بعض القطاعات هو مخطط كامل ينوي قيس سعيّد تنفيذه بدأه بزيارة الثكنات ولم يكن الجميع يدرك أين قد يصل الأمر.

وفي أفريل 2020 مع بداية الأزمة الوبائية والحجر العام أعلن قيس سعيد أنّ القوات المسلحة العسكرية هي الجهة التي ستتكفل بتوزيع المواد الأساسية في الجهات.

في 8 نوفمبر 2020 اطلع قيس سعيّد، عن زيارته لمنطقة البطاح من معتمدية فرنانة بولاية جندوبة، على جسر صغير جديد محاذ لمدرسة الشهيدة مها القضقاضي والذي تم تشييده من قبل الإدارة العامة للهندسة العسكرية طبقا لتعليمات رئيس الدولة.

وكانت وزارة الدفاع قد تولّت، عن طريق الهندسة العسكرية، منذ يوم 20 سبتمبر، القيام بكافة أشغال البناء والتهيئة من تشييد جسر وإعادة منظومة إنارة المدرسة وطلائها وتصليح النوافذ المهشمة وتبليط قاعة الإعلامية وتجهيزها بمجموعة من الحواسيب، فضلا عن تهيئة محيط المدرسة وتعبيد الطريق المؤدية إليها.

وفي 10 ديسمبر 2020 أعطى قيس سعيّد إشارة انطلاق استغلال المستشفى الجامعي الجديد بصفاقس المنجز في إطار هبة من جمهورية الصين الشعبية بقيمة 140 مليون دينار، كما أعلن سعيّد أن المستشفى سيكون عسكريّا متكامل الاختصاصات وتحت إدارة وزارة الدفاع.

وفي ديسمبر 2020، كلف قيس سعيد الجيش الوطني، بتأمين عملية نقل مادة الأمونيتر الموردة من روسيا والقادمة عبر ميناء منزل بورقيبة، وتوزيعها بكامل تراب الجمهورية.

في 27 فيفري 2021 أدّى قيس سعيد زيارة إلى منطقة منزل المهيري من ولاية القيروان حيث عاين الأرض التي سيقام عليها مشروع مدينة الأغالبة الطبية وكان مرفوقا خلال هذه الزيارة بكل من وزير الدفاع الوطني إبراهيم البرتاجي ووزير الصحة فوزي مهدي ورئيس لجنة قيادة المشروع أمير لواء طبيب مصطفى الفرجاني مدير عام الصحة العسكرية، فضلا عن مدير عام الهندسة العسكرية وأعلن سعيّد يومها عن إحداث قطب تكنولوجي للصحة سيكون تحت إشراف وزارة الدفاع الوطني. وبحضرة المسؤولين العسكريين تحدّث سعيد عن المسيرة التي نظمنتها حركة النهضة يومها بشارع محمد الخامس بتونس العاصمة.

وفي 23 جويلية 2021 أعلن قيس سعيد في كلمة ألقاها خلال جولة تفقدية لأحد مراكز التطعيم ضد كورونا تكليف الإدارة العامة للصحة العسكرية بإدارة الأزمة الوبائية، بما في ذلك تنظيم عملية توزيع المعدات الطبية التي تلقتها تونس من دول صديقة. ودعّم قراره هذا بأمر رئاسي أصدره يوم 28 جويلية 2021، يقضي بإحداث قاعة عمليات لإدارة جائحة كوفيد 19 يتولّى تنسيق مهامها إطار سام من وزارة الداخلية تحت قيادة المدير العام للصحة العسكرية.

جاء ذلك بعد أسابيع من تجميع هبات التلاقيح على ذمة إدارة الصحة العسكرية، دون مصالح وزارة الصحة، في إطار الصراع بين قصر قرطاج وهشام المشيشي، وتوّج ذلك بأن صار حضور البدلات الخضراء معوّضا للبدلات البيضاء في القرى والأرياف وفي أغلب مراكز التلقيح، نتيجة أوصل إليها قيس سعيد إدارة الأزمة الوبائية بعنوان أنّ القوات المسلحة هي التي أنجحت المعركة الوبائية.

ومساء 25 جويلية دفع قيس سعيد بقوات الجيش للسيطرة على مبنى مجلس نواب الشعب بباردو، وقصر الحكومة بالقصبة، ومبنيي الإذاعة والتلفزيون، وعدة مبان حكومية، إضافة إلى الانتشار في عدة ساحات وأهمها شارع الحبيب بورقيبة على مقربة من وزارة الداخلية.

ورغم أنّ وزير الدفاع ابراهيم البرتاجي، بعث برسائل مطمئنة يوم 6 ماي 2021 في جلسة استماع أمام لجنة تنظيم الإدارة وشؤون القوات الحاملة للسلاح بالبرلمان، ضد الدعوات لتدخّل الجيش في الحياة السياسية، ووصفها بأنها نداءات "غير جدّية وغير حقيقية"، مؤكدا أنه ليس لها أي تأثير أو صدى داخل المؤسسة العسكرية.

وقال البرتاجي "الجيش التونسي كما تعرفونه جيش جمهوري ومدني وفي حياد تام عن التيارات السياسية".

لم يكن البرتاجي حاضرا في ماي 2020 بمناسبة زيارة رمضانية للأكاديمية العسكرية بفندق الجديد ألقى قيس سعيد خطابا في حضرة وزير الدفاع الأسبق عماد الحزقي، وضباط، وضباط الصف وكوادر الجيش، تضمّن رسائل للطبقة السياسية بينها ردود على الانتقادات التي تطاله وترويجا لما يراه من نظريات انتخابية وقانونية تلائم عملا برلمانيا ناجعا. كما هاجم معارضيه ووصفهم بالكاذبين والمفترين ونعتهم بالكذب والرياء والافتراء.

لقد أقيل البرتاجي من منصبه، بعد شهرين من حضوره في مجلس نواب الشعب، قبل وقت قليل من قرار قيس سعيد للجيش بالسيطرة على مؤسسات الدولة ومنع أعضاء البرلمان وأعضاء الحكومة من دخول مؤسساتهم.

وإن كان أغلب الرأي العام لا ينكر كفاءة المؤسسة العسكريّة وانضباطها وضرورة معاضدتها للمجهودات الوطنيّة في مجابهة الكوارث والأوبئة إلا أن الخشية من أن يكون تكليف الرئيس للجيش بإدارة جزء من الشأن العام، مثل أزمة كورونا، والاستحواذ على إدارة مؤسسات صحية جديدة، بوّابة لعسكرة الدولة وإلهاء الجيش عن مهمته الأساسية. ومدخلا لإقحام المؤسسة العسكرية مستقبلا في مجالات بعيدة عن اختصاصها، وخلق نوع من "التطبيع مع الحالة العسكرية"، على غرار الحالة المصرية التي يسيطر فيها الجيش على أكثر من نصف اقتصاد البلد، خاصّة وأن لجوء قيس سعيّد للقضاء العسكري واستغلاله في معركته ضدّ خصومه والرافضين لقراراته وتدابيره الاستثنائيّة قد يبرّر حالة الخوف هذه.

Commentaires - تعليقات
Pas de commentaires - لا توجد تعليقات