إحدى معضلات الساحة السياسية منذ ما قبل الثورة هي وجود حزب كبير ووحيد في الساحة هو حزب النهضة، ولا يجد هذا الحزب قبيلًا له يقاسمه العمل السياسي إما بالتحالف وإما بالمعارضة، وليس معنى هذا أن الساحة غير مسيسة، بل هي ساحة تخترقها التيارات السياسية والأيديولوجية حتى العظم، لكن كل التيارات تعيش معضلات تنظيمية ولم تفلح في بناء كيانات بحجم حزب النهضة خاصة بعد تفكك حزب التجمع (الذي حكم به بن علي).
في هذه الأيام التي ترتفع فيها نبرة معارضة الانقلاب من جهات كثيرة طرحت من جديد خطط وأفكار لمعارضة الانقلاب مع حزب النهضة والحكم بعد الانقلاب مع حزب النهضة، وهنا عاد المنجل داخل القلة (كما يقول التونسيون)، هنا الورطة التي حكمت على الثورة وأفرغت مضامينها وحرّفتها إلى صراعات غريزية استغلها الانقلاب، سنخوض في الأمر ولا نوزع شهادات نضالية على أحد فليس هذا من عاداتنا.
حزب النهضة ما زال حزبًا وحيدًا
يصابحنا الإعلام المعادي لحزب النهضة كل يوم بأخبار انفلاق/انهيار/اندثار/موت حزب النهضة، لكن نبيت على أخبار استيلاء حزب النهضة على المشهد السياسي وأن الحزب يخطط للاستيلاء على تونس بعد الانقلاب، وهذه التناقضات تغطي أسئلة أخرى لا يطرحها الإعلام أهمها: لماذا لم تنشأ أحزاب أخرى في كفاءة حزب النهضة التنظيمية وقدرته على التحشيد والتموقع وتوجيه الفعل السياسي عمومًا؟
هنا نقول إن فراغ الساحة السياسية من الأحزاب الفاعلة ليس غلطة النهضة ولا جمهوره، فالغلط كامن في طبيعة الفاعلين السياسيين المعايشين له، ويمكننا القول دون أن نظلم أحدًا إن مرض الزعاماتية قد خرب الساحة وشتت جمهورًا سياسيًا كبيرًا لا ينخرط في النهضة وبعضه يعاديها لكنه لا يجد إطارًا حزبيًا كفئًا يعمل داخله.
أمامنا تجربة حزب المؤتمر من أجل الجمهورية الذي أسسه الرئيس المرزوقي قبل الثورة وشارك به مع النهضة في (الترويكا)، فقد كان حزبًا قائمًا على وجود شخص زعيم فذ فلما انسحب الزعيم مات الحزب ولم يفلح في التجدد في مسمى آخر، وأمامنا حزب التكتل (حزب بن جعفر) الذي شارك النهضة أيضًا، فلما انقضت مرحلة التأسيس تفكك الحزب وصار شبحًا ينشر بيانات مترددة عن كل مسألة مطروحة، لقد قضى عليه مؤسسه بحركة واحدة عندما أغلق المجلس التأسيسي بقرار فردي رغم الشراكة مع النهضة.
وأمامنا عشرات المسميات لأحزاب يسارية بنت جبهة سياسية لم تعش أكثر من سنوات ثلاثة ثم ذهبت أيدي سبأ، ويمكن تعديد الأمثلة ولا نرى أي مسؤولية لحزب النهضة في ذلك، فنحن لسنا ضحية الإعلام المعادي للحزب الذي يتهمه حتى بتفجير ميناء بيروت.
لا داعي هنا للتذكير بطبيعة حزب نداء تونس وطريقة تجمعه وراء الباجي قائد السبسي، فقد تفكك الحزب قبل وفاة مؤسسه (الوريث الحقيقي لبورقيبة).
والآن كيف سنتفق مع حزب النهضة؟
مدار النقاش السياسي هذه الأيام في تونس هو الجملة التالية "لا يمكن إسقاط الانقلاب دون حزب النهضة وجمهوره المنظم لكن كيف نحكم مع الحزب الذي سيحوز فخر إسقاط الانقلاب"، فالخيال السياسي لما بعد الانقلاب يقع في مأزق حقيقي بين الاعتراف بدور الحزب في الشارع وحصته فيما بعد الانقلاب.
القيادة الشابة التي انطلقت في العمل تحت مسمى "مواطنون ضد الانقلاب" تجاوزت المأزق بشجاعة ورتبت الأولويات: إسقاط الانقلاب أولًا ثم يكون حديث بعده، وهي تشتغل الآن على توليف الإرادات السياسية المتفرقة (الزعامات) حول هذا الترتيب العملي (الحصان أمام العربة لا العكس) على قاعدة أن العمل المشترك سيذيب الاختلافات ويبنى عليه عمل طويل النفس، وعلى هذا الأساس أسند حزب النهضة التحرك ودفع جماهيره في مناسبات كثيرة إلى المشاركة ويشارك الحزب بقياديين في إضراب الجوع الجاري.
الأسئلة التي لا تطرح علنًا وتصل إلى حزب النهضة في الحوارات الجانبية الملفوفة بخطاب حسن النية (كم ستعطوننا من حصص الحكم بعد الانقلاب؟)، ويجيب حزب النهضة بخطاب ديمقراطي وإعلان الرغبة في المشاركة بقطع النظر عن الحجم الانتخابي وعن الدور في الشارع، لكن هذه الطيبة المفرطة تثير الريبة.
في تجربة الترويكا لم يكن حزب النهضة الأخ الكبير الطيب الذي يبجل أخوته الصغار، لقد كابر معتمدًا على حجمه في المجلس لكنه قدم نقدًا ذاتيًا في محطات كثيرة وقال إنه كان يمكنه أن يعطي الأكثر وهذه مرحلة مرت وتركت درسًا قاسيًا، فالشركاء المفاوضون الآن لا ينفكون عن التذكير بذلك ورفع قائمة مطالبهم للحزب.
في المقابل لا يتلقى الحزب تطمينات من المحاورين، هل ستتخلون عن فكرة أن حزب النهضة يمنح قاعدته الناخبة للزعماء (خارج ائتلاف مواطنون ضد الانقلاب) ولا يحكم معهم؟ فوضعية "الباص العمومي" الذي يوصل الناس إلى مقاصدهم ثم يعود إلى المخزن وضعية غير ديمقراطية، وتكشف تحايلًا سياسيًا ذا طبيعة استئصالية، ونعود إلى المأزق الأصلي في المشهد السياسي: حزب وحيد وزعامات بلا قاعدة.
يطرح شباب النهضة وشيوخها الذين يحملون بعض آثار التعذيب على أجسادهم وهو يخوضون الشارع ضد الانقلاب ما هو الحجم الحقيقي في الواقع لزعيم مثل نجيب الشابي الذي ألف أكثر من حزب بعد الثورة وبقي وحده في مكتبه يربي كلابًا لطيفةً؟ ما مصداقيته وهو الذي قفز فجر الثورة مع حزب التجمع ليقتسم معه الحكم ويقصي النهضة؟ ماذا يقدم الرجل لبناء الثقة وهو يتكبر عن مجرد اللقاء البروتوكولي العلني مع الغنوشي زعيم الحزب؟
يمكن طرح أسئلة مماثلة عن حجم المرزوقي أيضًا وإن كان لحركته الدولية تأثير فعال في إضعاف الانقلاب وسد المنافذ الدولية عليه، ناهيك بشخصيات أخرى ينظر إليها الناس بتقدير كبير لكنها شخصيات بلا جمهور (لو ترشحت لأي انتخابات لفازت بصوت واحد).
مواطنون ضد الانقلاب تشير إلى الطريق
في مقر إضراب الجوع بقيادة ائتلاف مواطنون ضد الانقلاب تدور نقاشات حامية الوطيس للخروج من هذا المأزق، وتترسخ قناعة تهرب منه البعض ثم تابوا، الانقلاب لم يتم على حزب النهضة الأغلبي في البرلمان والمساند لحكومة المشيشي، لقد عصف الانقلاب بالديمقراطية ونسف أسسها واعتدى على الحريات العامة والخاصة وأدخل التلبيس في إدارة الدولة وقدم الولاء على الكفاءة وليس له أفق يحمل له البلد (بإرادة فرد لا يقدم أي علامة على الذكاء السياسي).
على هذه القناعة يؤسس مواطنون ضد الانقلاب ويجرّون الفرقاء إلى الكلمة السواء، وقد زار مقر الإضراب شخصيات وزعامات وازنة وسمعت هذا الخطاب ودعيت إلى التأسيس عليه، وزار المقر راشد الغنوشي (ليلة 28 من ديسمبر/كانون الأول) بصفته رئيس البرلمان ورئيس الحزب الأغلبي وصرح بجمل تتوافق مع نوايا الائتلاف، واعتبر البعض ذلك تسبقة على ما بعد الانقلاب (أي الحكم مع الآخرين).
نعتقد أن مهمة أخرى ملقاة على عاتق الائتلاف وتأتي في سياق التفكير في المستقبل، الحديث بشجاعة على أن قاعدة الحكم (وإن تأخر سقوط الانقلاب) هي نتيجة الصندوق الانتخابي قبل رغبات الزعماء الذين لم يبنوا لهم قاعدة سياسية يشاركون بها في معارك الصندوق، بمعني نعم للتوافقات السياسية لكن لا لتجاهل الأحجام والتاريخ.
قد يكون قاعدة ذلك توليف قوائم انتخابات ائتلافية قبل خوض غمار أي معركة انتخابية وليكن الصراع هناك قبل إعلان الترشح لا بعد أن يقول الصندوق كلمته.
هذه خطوة مهمة في الطريق وقد سمعت فيها حديثًا كثيرًا (وأزعم أنني شاركت فيه) وأعتقد أنها خطوة مؤسسة لحكم تشاركي لا يرتد إلى حديث الحصص.
إن التنوع السياسي الذي يقوم عليه ائتلاف "مواطنون ضد الانقلاب" والصبر على الأذى الإعلامي الذي يتعرض له سيحل المأزق التاريخي للتجربة الديمقراطية التونسية، وسيكون مؤسسًا، وهنا فقط يسقط الانقلاب.