من غريب المفارقات ان« يلتهم » قيس سعيد تقريبا جميع السلطات وان « يقزم » القضاة الى ادنى درجات الوظيفة.! وحتى لا نسلبه خصوصياته، فقد أكد لنا في آخر ظهور له بمجلس الوزراء يوم 6جانفي الجاري انه « لا يمكن ان يقول أحد.. انا الذي اضع القانون، هناك مشرع واحد وليس آلاف المشرعين. »
ولا شك انه يقصد بذلك نفسه بعد ان انفرد بكامل صلاحيات السلطة التنفيذية برأسيها و كافة اختصاصات السلطة التشريعية واطرد جميع النواب المنتخبين ثم الغى كل رقابة على مراسيمه وقراراته. وعمليا لم يبق له الا الجلوس على منصات المحاكم، لذلك قد يبدو مشروعا له طبق منهجه واعتقاده ان يضم القضاءالى ديوانه واختصاصاته!؟
وربما يبدو مثيرا وسط هذا الانهيار المتدرج للمنظومة القضائية (الدستور، النيابة، المجلس الاعلى للقضاء، المحاكم..) اعلان قيس سعيد للجميع » ان لا وجود لدولة القضاة، هم قضاة الدولة! »
ومن الواضح ان هذا الاسلوب « الدعائي » كثيرا ما يسبق خطة الاجهاز على الجريح التي استوفت في حالتنا شروط تنفيذها من خلال سلسلة طويلة من استنزاف الجسم القضائي من ذلك: التعليمات، الوضع تحت الاقامة الجبرية، التشويه، الضغط، التشهير، التهديد بكشف الملفات،التعرض للقضايا المنشورة وانتقاد قرارات المحاكم، الهجوم على المجلس الاعلى للقضاء واتهامه بالتسيس، تكليف وزارة العدل بتنقيح القانون الاساسي للمجلس… الخ.
لكن الجديد في كل هذا هو ان قيس سعيد بقدر ما سمح لنفسه بالتدخل في القضاء نراه يرفض بشدة تدخل القضاة في انقلابه، رغم ان الانقلاب هو مفهوم قانوني (دستوري) يمكن ان يكون موضوعا للتحليل والتعقيب. فهو يؤكد في تشنج غير مبرر قائلا «ما اسمعه وما اقرؤه وما احتقره وازدريه في نفس الوقت !هو ان يتحدث قاض عن الانقلاب، ما دخله في مسالة الانقلابات او غير الانقلابات! ؟ واجب التحفظ وواجب الحياد يقتضي ان يلازم الصمت ويطبق القانون بكل امانة...! ».
وحقيقة لم نكن نتوقع خطابا اقل فظاظة او اكثر انفتاحا من احتقار (او ازدراء) وجهات النظر المخالفة، حتى ان القاضي الذي اصبح في عرف الرئيس مسلوبا من حق المواطنة لا يمكن له الحديث حتى في المسائل غير الانقلابية.!
فالرئيس الذي يلقي علينا يوميا دروسا مجانية في الاخلاق يبشرنا (في نطاق اصلاح القضاء) بان علينا ، لا فقط الامتناع عن الحديث في الانقلاب و غيره، بل ملازمة الصمت وتطبيق القانون.! بناء على واجب التحفظ والحياد! فهل يكون من الواجب على قضاة البلاد ان يصوموا عن الكلام حتى في مصيرهم و شؤون العدالة وحقوق المتقاضين وحماية الحريات وسياسة التشريع وتعطيل الدستور والانقلاب على مؤسسات الدولة!؟