عبارة "حوار الطرشان" لا تكفي للتعبير عن علاقة الرئيس التونسي بشعب تونس. المقارنة بينه وبين الرئيس المرزوقي في مجال الإصغاء إلى الصوت الشعبي وصوت النخب وصوت الجوار الجغرافي والسياسي؛ تدخل تحت باب الحرام السياسي وفيها إهانة للمرزوقي، والمقارنة مع الباجي قائد السبسي فيها ظلم فادح للمرحوم؛ فقد كان رجل حوار يخرج منه غالبا رابحا، لكنه كان يستمع إلى شركائه في البلد ويصل معهم إلى توافقات سمحت بحياة سياسية مفتوحة على المستقبل، بينما نتابع خطاب سعيد وحركاته ونستطلع نواياه، فنجد أننا ذاهبون معه إلى كارثة سياسية عنوانها تدمير مناخ الحريات ولن يمكن لنا الخروج منها بسهولة مهما قصرت مدتها.
لكن سيظل هناك سؤال كبير: لماذا تنحصر تعبيرات الرفض حتى الآن في فئة محددة من النخبة السياسية، ونشاهد رغم تعسف الرئيس من يأتيه طائعا يبرر له أو يتظاهر بالحياد فلا يهتم بمصير البلد؟
إغلاق الفضاء العام بالتدريج
بعد التلاعب بالأرقام الكاشفة لوباء الكوفيد قبل 25 تموز/ يوليو (تجميع أرقام الإصابات الأسبوعية على أنها أرقام إصابات يومية) للإيهام بتقاعس حكومة المشيشي؛ اختفت الإحصائيات حتى أوشك الناس أن ينسوا الوباء (بما في ذلك احتفالات ليلة رأس السنة الميلادية التي تمتلئ فيها النزل). وفجأة وقبل الاحتفال بذكرى الثورة يوم الرابع عشر من قبل المعارضين عادت اللجنة العلمية تهدد الناس بتفشي الوباء، وتقدم للرئيس ذريعة لإغلاق المدن وعزل العاصمة، في نفس الوقت لم تر اللجنة ضرورة لإغلاق المدارس (حيث أغلب الشباب يرفض التلقيح)، بما يكشف أن قرارها مملى عليها ولا علاقة له بالعلم ولا بإجراءات التوقي والمكافحة.
الرجل يضيق ذرعا بأصوات المعارضة، ويناور لإغلاق الفضاء العام في وجه كل تعبير احتجاجي على سياساته وقراراته التي يصدرها دوما بصوت مهدد ومتوعد. لقد شرع في عمليات الاعتقال خارج القانون، وقد بدأ بالقيادي النهضوي نور الدين البحري، وهاجمت شرطته الاثنين (11 كانون الثاني/ يناير) منزل ناشط من حزب الحراك، بينما لا يزال بعض النواب يقبعون في السجون ونظن يقينا أنهم لن يكونوا وحيدين في الأيام القادمة.
كل حركاته تترادف من أجل منع كل صوت معارض، ومسرحية عدم المساس بباب الحقوق والحريات في الدستور المعلق انكشفت عن خديعة سمجة.
عشر سنوات من الحرية سمحت له بالوصول إلى سدة الحكم، ويبدو أنه أعرف الناس بأن بقاء سقف الحرية عاليا سيعصف به، لذلك نتوقع الأسوأ ونستعد برغمنا لدفع الثمن وهو كره لنا.
القضاء في فوهة المدفع
ترادفت أخبار كثيرة حتى صارت يقينا بأن الرئيس أصدر أوامر لجهات قضائية لاعتقال البحيري فجاءه الرد بالرفض، فسُمع منه فحيح غضب تجاه القضاة ومجلسهم ونقابتهم، وهو يستعد خلال الساعات القادمة لحل المجلس الأعلى للقضاء وفي أقل الاحتمالات سوءا تعليق عمله؛ ليمكن له التحكم في السلطة القضائية على هواه. نسمع تململا في سلك القضاء وبيانات المجلس حاسمة في رفضها لكن الرئيس لا يسمع، ومن يزين له عمله يدفعه دفعا في اتجاه تخريب كل مكتسبات الحرية التي بنيت بصبر وعناء وصراعات حتى استقرت على الوجه التي عليه.
هل سيصمد القضاء أمام تدخل الرئيس؟ نتمنى ذلك لكننا واقعيون بعد، فسلك القضاء مخترق أيضا بتيارات اليسار الموالية للرئيس، وهي التي تدفعه لاستعماله ضد خصومهم السياسيين (الإسلاميين بالتحديد)، وقد كشفتهم زغاريدهم ليلة اعتقال البحيري وقبل ذلك تشفّيهم المفضوح في نواب ائتلاف الكرامة.
لقد تابعنا يسار النقابة يراود عن نفسه عارضا خدماته على الانقلاب، لكنه أغلق في وجهه الباب واصفا كل من يقترب منه بأنه طماع وصياد غنائم وقد بدأ توزيع الغنائم على أنصاره المثيرين للشفقة. ونرجح أن يسار القضاء سيتواطأ ضد الجسم القضائي بمقابل معروف هو مواصلة صيد رؤوس النهضة، وهذا يقربنا من الإجابة عن السؤال المطروح أعلاه: لماذا يجد عدو الحرية أنصارا بعد، رغم الخطر الجاثم والهاجم على البلد؟
إنها معركة حرية
إغلاق الفضاء العام هواية الرئيس من أجل غاية لم تعد تخفى على أحد، وهي تمرير تعديل جذري للنظام السياسي. لم يخفها على أحد (هذا صحيح وثابت)، لكن لا أحد أخذه على محمل الجد، بينما يظهر أنصاره الباقون معه منكشفين في معركتهم الموازية لمشروعه، وهي معركتهم الأزلية استعمال أدوات الدولة لخوض حرب الاستئصال السياسي. وفي الوقت الذي يخوض فيه المؤمنون بالحرية معركتهم في الشارع بأيد عزلاء، يتربص الاستئصاليون خلف الرئيس لتحصيل مكاسب قد لا تسمح بها ظروف أخرى، فوجود الرئيس هو آخر فرصة متاحة.
في الجملة الساحة لم تتغير كثيرا بالنظر إلى بقاء عناوين المعارك القديمة. لقد شعر كثيرون بالخوف من فقدان حرية التعبير والتظاهر، وهم يعلنون ذلك بأصوات صريحة وأخرى مواربة، لكن الاستئصاليين لا يزالون مرابطين على مشروعهم وطريقتهم، لذلك يجد الرئيس أنصارا، إنهم أنصار ابن علي (من الفاشية التجمعية ومن اليسار والشبيحة).
رؤية المشهد التونسي من هذا الزاوية يسمح بوضوح أكثر.. معركة تونس الآن هي معركة حرية، والرئيس جزء من مشهد لا المشهد كله، وإذا كان يملك أن يتحرك بسند أمني وعسكري فإن ذلك لا ينفي، بل يؤكد أنه معاد للحرية، وأن من يناصره يفعل ذلك عن بينة ولو بليِّ عنق القوانين وكسر مؤسسات الدولة.
من هذه الزاوية على معارضي الانقلاب أن يغربلوا صفوفهم، فكثير مما رأينا حول "مواطنون ضد الانقلاب" لم نره نصيرا حقيقيا للحرية وإنما يتبع الحراك على حرف، وحديثه عن الحرية لا يتسع ليشمل خصومه الإسلاميين.
إن العودة إلى معركة الحرية بعد أن ظننا أنها تكرست إلى غير رجعة تعتبر عودة إلى المربع الأول، لكنه للأسف يظل المربع المؤسس وعليه تقوم الديمقراطية. ويكون من الضروري الآن إعادة ترتيب الصفوف والشعارات على هذا الأساس، فتصبح معركة استعادة البرلمان والمؤسسات أكثر من إجراء قانوني، بل نضال في المربع المؤسس أي مربع الحرية أولا.
فنحن لا نخوض معركة إصلاح وضع قانوني اعتدى عليه مسؤول في الدولة، أي اعتداء قابل للجبر بوسائل الديمقراطية المعتادة، بل نعيد تأسيس الحرية ضد كل الذين كشف الانقلاب كفرهم بها ومنافقتهم إياها طيلة العشرية الماضية.