فيلم «في الظل In Shadow »هو انتاج إبداعي قصير (13 دق)، لا يخلو من قوة ومن عنف ذهني شديد. يصوّر - وكأنه يستعيد ديستوبيا جورج أورويل في روايته الفلسفية الشهيرة جدّا «1984» - ما فعلته بنا الرأسمالية وقيمها وآلياتها المالية والبيروقراطية والتربوية والإعلامية، وكيف صنعت منّا مجرد حاملي أقنعة بلا قلوب، ليسهل عليها خداعنا وتحويلنا إلى آكلي لحوم بشرية anthropophages،
فمن يرى غيره لا يرى نفسه فيه مادام الأخر قناعا من دون أن يشعر أنه هو أيضا حامل قناع اجتماعي. والإنسان في عظمته أمسى اليوم أضعف من حلزون ومن يَرقة: ولكنه يرقة من نوع خاص لا تريد أن تكبر ولا أن تنضج، فنراة مستكينا في حضن غيره لا حبا فيه وإنما إشفاقا على نفسه هو بالذات، بما يعني في هذا الفيلم أن قولة كانط في التنوير إنه «خروج الإنسان من قصوره المسؤول عنه هو بنفسه» ليدخل إلىى سن الرشد، أمست اليوم - عمليّا- وهما وخداعا من الأقوياء للضعفاء وللمستعبدين.
وإذا كان، من قَبْلُ، الاشتراكي الفوضوي جورج أورويل قد صورّ في روايته المذكورة «عين» المفتش المراقب والمتحكم والواشي مجسمةً في إيديولوجيا «الأخ الأكبر The Big Brother » (الأنظمة الشمولية بما في ذلك ما آلت إليه تجربة الاتحاد السوفياتي)، فإن النظام الرأسمالي المُعَوْلَم (ما بعد 1989) استوعب كل شرور الشمولية وعمّمها بالكامل، وهو دائما في نظري النظام الليبرالي نفسه، لا القديم ولا الجديد، لا التقدمي ولا المحافظ، لا الحَمَامِيِ ولا النّسوري، بل الليبرالي لا غير، جعل من كل فرد «أخا أكبر»، وزاد على القطيع البشري «التفريدي» قطيعا «شبكيًّا» من نوع جديد: الكائنات التكنولوجية السحرية، وهي ضرب من المعبودات والفيتيشات (fétiches) لا فرق بينها، من حيث الوظيفة، وبين الطلاسم والتعويذات القديمة.
وهذا القطيع المُعَوْلَب مهيّا بَعْدُ إلى جميع أشكال التحكم السياسي الشعبوي-التكنولوجي-الشبكي بعد أن تكون النخب التكنوقراطية المالية قد أدت وظيفتها أو قُلْ - بلغة صارت اليوم بالية - «رسالتها التاريخية» !!!
قد لا أتفق شخصيا مع النهاية الخلاصية النورانية والاشراقية للفيلم (ربما ذات أثر هندوسي)، ولكنه، كما وصفتْ إحدى المجلات الفرنسية، «صفعة» في وجهه القيم الرأسمالية الغربية وممارساتها. وأضيف أن قيم المركز الرأسمالي وممارساته أنتجت نسختها الباهتة و«نسخة نسختها» الأكثر بَهَتا وبُهتانا وبؤسا في بلدان الأطراف وفي المحليات التابعة. ومع ذلك فإن الرؤية الخلاصية، من حيث هي مُتَخَيَّل مثالي، هي المعيار الذي بفضله ينقد صاحب الفيلم وضع الرأسمالية الحالي. وهل كان من الممكن لماركس أن ينقد قيم الرأسمالية في القرن التاسع عشر لو لم يتخيل روبسنون كروزوي على جزيرته الخالية من التبادل السلعي؟
والفليم أنتجه البلغاري لوبومير أرسوف في سنة 2017 بجهد شخصي. وجائحة الكوفيد لا تزيد إلا في وجاهته وعنفوانه الاستبصاري وراهنيته.