انتقل الخوف إلى معسكر الانقلاب وهو يعاني فشله، فيوظّف أدوات الدولة الخشنة لمنع الشارع من التعبير عن نفسه، ولكنه يتناسى أن من خافَ من الشارع أسقطه الشارع وما بالعهد من قدم.
توظيف الوباء للسيطرة على الشارع هو آخر أدوات التخويف الكاشفة عن أن الشارع يتقدم على الانقلاب والبوصلة واضحة، إنها ليست بوصلة اللحظة الراهنة فقط بل بوصلة الثورة التي تتعثر منذ 10 سنوات، لكنها رغم العثرات الكثيرة لم تفقد اتجاهها، وهي لا تزال تدافع عن مطالبها في الحرية والتقدم والتنمية.
في ذكراها الثانية عشر سنكتبُ بثقة أن الثورة تنتصر. المستعجلون على قطف النتائج سيجابهوننا بقول اعتدناه "ماذا أنجزت الثورة؟"، نقول لهم أولًا إن أحد أهم إنجازات الثورة هو كشف المستعجلين على المغانم، وتعرية نهمهم الغريزي للكسب دون دفع الثمن.
إن الثورة غربال "طويل البال". لقد كانوا هم العثرة الأولى وقد تعرّوا. سننظر من زاوية أوسع لنرى الانتصار.
التدرُّج في التغيير أفضل من الدم في الطرقات
في لحظات ضيق كثيرة تتصاعد أمنيات ضجرة من ألسنة كثيرة: "لو كانت الثورة حُسمت بالدم وصفّت أعداءها لكانت حققت كل شيء"، وهذه صورة مستوحاة من ثورات سبقت، لكنها صورة تتناسى آثار الدم في الزمن، حيث لا يمكن ترميم الجروح بسهولة، وتظلُّ ارتدادات الدم مؤثرة لزمن طويل جدًّا وقابلة للانتكاس دومًا، وكان يمكن للدم (لو سال) في شعب قليل العدد متواصل جغرافيًّا وثقافيًّا بشكل كبير، أن يفتح باب ثارات لا تنتهي.
في لحظات العقل تُظهِرُ سلمية الثورة وبساطتها الأولى عنصر نجاح، فقد فتحَت باب الصراعات السياسية بوسائل السياسة فقط، لذلك اتّجه الناس إلى التأسيس الدستوري الديمقراطي، وخاضَ الجميع الانتخابات وتغيّرَ الكثير في العقول وفي النفوس.
حتى أن الانقلاب نفسه، وهو ضربة موجعة وعنوان ردّة، لم يستعمل عنف الدولة بشكل فاحش (على الأقل حتى اللحظة)، وظلَّ يناور بالاعتداء على القانون ولا تصل يده إلى قطع الرؤوس، وهو يعاني الآن الطعون السياسية في ما نوى ولم يحقِّق من أهواء معادية للحرية، والشارع اليقظ يقفُ له بالمرصاد متسلِّحًا بالحرية.
لقد أبقت سلمية الثورة على سلمية العمل السياسي بشكل دائم، ولم تظهر اتجاهات لاستعمال العنف، ونعتقد أن المسار مهما تعثّر سيظل سلميًّا والانقلاب سيسقط بوسائل الديمقراطية لا بالدم.
سيحتاج الأمر إلى فترة زمنية طويلة ومضنية ومحبطة أحيانًا، ولكنها لن تفتح باب الثارات وهذا نجاح باهر، إن الحسم الثوري جميل في الكتب الرومانسية لكن لا أحد يملكُ إيقاف الدم إذا سال.
ثورة حاربت على جبهات كثيرة
لا ننكر حصول عنف وسيلان دماء، لكن ذلك كان جبهة خارجية فتحَتْ على الثورة عنفًا مسلَّطًا من الخارج، وأوجدت له أدوات محلية. الإرهاب الإجرامي كان الجهة الوحيدة التي سعت إلى الدم، ولم يكن قائدها محليًّا.
ويكفي تذكير القارئ بأن أبو بكر الحكيم، الذي نظَّم الاغتيالات السياسية، بحسب ما استقرت التحقيقات المعلنة في الاغتيالات، كان سجينًا في سجون فرنسا وأُطلق سراحه فجأة ورحل إلى تونس، ليَسرُب من سجنه التونسي ولتبدأ على يدَيه عمليات الإرهاب.
هذه جبهة خارجية فُتحت على الثورة فانتصرت عليها في لحظات مفصلية، خلقت فيها الثورة حالة تناغم تامّ بين أجهزة الدولة والشعب المؤمن بالثورة والحرية، ونحيل هنا إلى صور معركة بن قردان ضد الإرهاب المتسرّب من ليبيا الشقيقة.
لم تفتح هذه الجبهة باب الإرهاب المسلَّح فقط، بل وضعت مالًا كثيرًا وضغوطًا دولية وناورت مع الصهاينة وخطّ التطبيع الخياني لتُفشل الثورة، لكن رغم الانقلاب المتّجه بدوره إلى الانخراط في مسار التطبيع إلا أن ذلك لا يبدو في وارد الحدوث، فالانقلاب يترنّح، والتطبيع جريمة متّفق عليها لا يجرؤ عليها إلا خائن، ومزيّة الثورة أنها تكشف الخونة بسرعة، وهذه انتصارات توضع في الرصيد الثابت.
الثورة التونسية قاومت الأدوات المحلية للإرهاب، وهي تقاوم وحدها وبشراسة (نعم رغم الانقلاب) كل قوى الردّة العربية المطبّعة، خاصة بعد انقلاب عسكر المعونة المصري على تجربة الديمقراطية المصرية.
لقد صنعت الثورة ثوابتها القومية والوطنية، ووضعت البلد رغم كل العثرات على سكة ديمقراطية لا تزول برغبة فرد أو جماعة صغيرة، مهما استقوت بأجهزة الدولة. لنقِسْ حجم العدوان على الثورة التونسية بمكاسب اللحظة، فارق القوة يكشف حجم الانتصار، لقد أكسبت الثورة المجتمع مناعة تامة ضد الخيانات.
نحتفل بشوق إلى الحرية
أزمة اقتصادية خانقة تراكمت أسبابها منذ ما قبل الثورة، ثم ضاعفها الوباء وزاد في تعقيدها الانقلاب، لكن بقدر الألم والمعاناة الشعبية (لقد بدأت طوابير البحث عن الغذاء تطول ويُسمع فيها صوت غاضب مزمجر)، من الغفلة ألّا نرى تلك الطوابير علامة على أن الحلول الاقتصادية والاجتماعية لا تكون إلا سياسية وجماعية، يشترك الجميع في وضعها وتنفيذها داخل مؤسسات الدولة.
لقد أثبت الانقلاب أن إرادة الفرد لا تقدِّم أية حلول فعّالة (مهما كانت النوايا حسنة)، وأن مصير البلد أن يُحكَم من قبل كل مواطنيه ولا سبيل إلى تشريك الجميع إلا عبر الديمقراطية، وهذا انتصار عظيم، إنها مناعة داخلية ضد عنف الدولة ورغبات الأفراد المنفلتين.
هل هذا من خيال الكتّاب المطمئنين إلى وجود راتب ثابت؟ قد يُردّ علينا بخطاب مماثل: "لندفع الخيال إلى حلول عنيفة، يحسم فيها الجياع أمر النخب المستريحة". ماذا يكون بعد ثورة جياع بلا مؤسسات حكم ديمقراطي؟ أن يعاد إلى البحث عن مؤسسات حكم مقبولة هل يوجد غير الصندوق الانتخابي لإفراز مؤسسات تدير البلد؟
في لحظة 14 يناير/ كانون الثاني 2022 ذاهبون إلى الاحتفال بالحرية، دفاعًا عنها ضد الانقلاب وترسيخًا لها ضد المستعجلين على جني المكاسب الغريزية، وبعضهم يورّد الكوكايين في مراكب الموز من الإكوادور.
هناك يقين ثابت: لقد صارت الحرية روحًا متفشية في الناس، ويعسر على أي منقلب أن يخرج الناس من نورها إلى ظلام الدكتاتورية.
نقرأ الشارع بعين فاحصة. أشواق الحرية تقود الغالبية الواسعة من الناس (لا تزال خلافات سياسية تشتِّت جهد الكثيرين، وتسكنهم أوهام زعامة مفوَّتة وتوجُّهات استئصالية متخلفة عن المرحلة)، لكن مشترَكًا وطنيًّا بُنيَ بعد جعل الأغلبية تستميت دفاعًا عن حرياتها الفردية والجماعية، وتمنعُ المنقلب من مصادرتها، وما تخبُّط المنقلب وحيرته إلا علامة على قوة الحرية التي تقف في وجهه، فتردّه خائبًا فيزيد ارتباكه.
كيف لا نجزم بانتصار ثورة الحرية والكرامة وهي توقف الانقلاب، فلا يتقدم، بل يرتدّ، وتثبّتُ المشترَك الوطني وتجمع الآن وللمستقبل القريب قوى وطنية كثيرة حول هذه المكاسب.
إن حركة شبابية سمّت نفسها "مواطنون ضد الانقلاب" تتحول الآن في شارع الثورة إلى شعب ضد الانقلاب، وهذا الشعب بكل هشاشته يصحِّح الأخطاء ويخطِّط للمستقبل، مستقبل مسيّج بالحرية ويتقدم بها، يراجع أخطاءه ويصحِّح ويضع مطالب الثورة المادية في وارد التحقق.
نحتفلُ متفائلين ولا نستهين بالثمن المباشر (وقد يكون فيه دم)، فالغنيمة الأكبر هي الحرية والديمقراطية، وليغفر لنا الشهداء التأخيرَ في تثمين أرواحهم الطاهرة.