• في ضرورة التحرر من العائق والوهم البيداغوجوي(البيداغوجيزم).
• أو في أن السياسة الصغرى(التربية) تتبع السياسة الكبرى(نظام الحكم).
• وفي ضرورة تذكر المثل الشعبي: « من مرقته مبيّن عشاه » وعدم الغفلة عن طبائع العمران البشري:
بكل طيبة وحسن نية وإخلاص للقضية والرسالة التربوية يتحمس مربون وتربويون كثيرون وأولياء تلاميذ لإعلانات رسمية عن بدء إصلاح تربوي جديد. فيندفعون بقوة اقتراحية عجيبة إلى تقديم تصوراتهم العفوية أو الأقل عفوية لهذا الإصلاح، كل من الزاوية التي يقف فيها وبحسب الحاجة الوظيفية الجزئية التي يستشعرها، ظانين أن المعضلة هي بالأساس معضلة ببداغوجية(المناهج، الزمن المدرسي…الخ).
نعم هنالك معضلات بيداغوجية من دون شك، ولكن التجربة قد أفادت كل ذي بصيرة أن جُلّ ما أعلن من إصلاحات تربوية سرعان ما ظهرت عوراتها وتبين فسادها والسبب الرئيسي في كل مرة هو نفسه: النظام السياسي هو من يتحكم في المنظومة التربوية، والإيديولوجيا الرسمية للدولة الصريحة أو الضمنية والعميقة هي من يرسم السقف الأعلى للإصلاحات التربوية وجديتها ونوعيتها وغاياتها وتمشياتها ووسائلها.
لنأخذ مثالا على ذلك إصلاح 1991. هذا الإصلاح لم ينبع من إرادة سياسية وطنية بل جاء بإملاءات عولمية ولذلك حمل بذور تفجره من داخله رغم لمسات إصلاح 2002 ذات التوجه المدني الحقوقي العالمي المفروضة مرة أخرى من الخارج لتوفير نوع من رفاهية البدائل السياسية المحلية للنظام الرأسمالي العالمي، ذاك الإصلاح الذي ساهم في تأويج التناقض الداخلي في المنظومة التربوية: مدرسة وجامعة في قطيعة مع سوق الشغل ومع الاستحقاق الاجتماعي مع تنامي الوعي بالحق المواطني في الشغل والكرامة والحق في التعبير عن هذا المطلب الحيوي. فكانت ثورة 17- 14.
مثال آخر: حملة الإصلاح التربوي التي قادها وزير التربية الأسبق ناجي جلول عضو القيادة السياسية لحزب نداء تونس. لقد صدّق الكثيرون أن العرض الذي قدمه ناجي جلول عرض إصلاحي حقيقي وجذري، ونسوا أنه ينبجس من تصور سياسي وإيديولوجي لاوطني(جلول قال هو نفسه إنه تنفيذ لبرنامج نداء تونس) وهو تصور حزب نداء تونس الليبيرالي الدائر في الفلك الأوروبي والفرنسي على وجه التحديد. وحتى عندما سوّلت لناجي جلول نفسه أن يطرح الانجليزية لغة أجنبية أولى « أكل طريحة » من الفرنسيين وضغطوا على حكومة نداء تونس الموالية لهم لنسيان هذا الأمر نهائيا. طبعا الكثيرون يتذكرون أننا في الائتلاف المدني لإصلاح المنظومة التربوية قد تصدينا لهذا الإصلاح المزعوم وطرحنا بديلا سياديا وطنيا علميا عنه.
نأتي الآن إلى « إصلاح السلاوتي ». من هو السلاوتي؟ إنه وزير التربية في حكومة نجلاء بودن. ومن هي نجلاء بودن وما هو برنامج حكومتها؟ إنها وزيرة المنقلب قيس سعيد الأولى. وبرنامجها هو الانبطاح الكامل لصندوق النقد الدولي وشروطه على ظهر الشعب التونسي الكادح وسحقه تحت وطأة تراجع إمكاناته المادية(غلق باب انتدابات أبنائه الذين كلفوه تحويشة العمر ليكوّنوهم في المدارس والجامعات، ورفع الدعم عن المواد الأساسية: السميد، مثلا، اليوم مقطوع ويباع بكميات نادرة بضعف ثمنه مغلفا في الفضاءات التجارية الكبرى…وقس على ذلك، رفع أسعار مشط في كل المواد: الأدوية، مواد التنظيف، مواد البناء…الخ).
طبعا صندوق النقد الدولي رفض العرض الانبطاحي لحكومة بودن لأنه لم ير فيه ما يكفي من الإصلاحات الكبرى(الكوارث المعيشية الكبرى) ويطالب بإجراءات عملية ملموسة (أي السحق الاجتماعي الكامل للمواطن) قبل أن يمد يده لإنقاذ خزينة دولة الانقلاب المفلسة.
هذه الحكومة هي التي قدمت لصندوق النقد الدولي من التنازلات الخاذلة للشعب ما لم تقدمه أي حكومة في العشرية التي يسودونها بفحم الانقلاب، رغم تسليمنا بتعثراتها الكبيرة وهدرها للزمن الوطني والاجتماعي الثمين، و وزارة للتربية هي التي تعلن البدء في إصلاحات. فهل يتصور عاقل أن تقدم هذه الوزارة تحت إشراف هذه الحكومة اللاوطنية واللاشعبية (هي شعبوية وليست شعبية لأنها ليست حقا في خدمة الشعب، بل عدوة له ولمعيشته وحريته وكرامته) على إصلاح تربوي وطني سيادي جذري يكون منطلقا لقفزة تونس التنموية واستكمال استقلالها المنقوص والحال أن مثل هذا الإصلاح لن ينال رضا القوى العالمية المهيمنة على الشعوب النامية وثرواتها وفضاءاتها ومعابرها الجيواستراتيجية؟! وهل بإمكانها وقد قسّم رئيسها قيس سعيد الشعب إلى نصفين أن تستغني عن مساعدات بشروط مجحفة من البنك الدولي لتمويل إصلاحها التربوي؟ إن من يأمل ذلك هو جاهل بطبائع العمران البشري وقوانين الصراع بين الأمم، والدول، ولعبة الإخضاع ،والابتزاز.
ولذا فلا تنتظروا عسلا من مخرج البوفرززّو، ولنتوجه بدلا من ذلك إلى النضال من أجل توفير الشروط الموضوعية لإصلاح وطني سيادي علمي حقيقي.