حتى لا نتهم باننا ندعو الى دولة القضاة او الى تلك الدولة داخل الدولة!، فاني اعتبر نفسي-على حد تعبير رئيس الجمهورية-احد قضاة الدولة التونسية الذين خبروا على امتداد عقود «ولاية القضاء » وفي عهدين متتالين وكابدوا الامرين ولا زالوا سواء في ممارسة«وظيفتهم السامية » او في الدفاع عن المصالح المعنوية والمادية لعموم القضاة اومن اجل بناء سلطة قضائية مستقلة.
وحتى لا انسى فاني اذكر ان اول مرة ولعلها الاخيرة التي اجتمعت فيها مع قيس سعيد د(ون ان يكون ذلك مناسبة لاي حديث شخصي) كانت بتاريخ 30 أفريل 2014 بمقر المجلس الوطني التأسيسي(مجلس نواب الشعب حاليا)و ذلك في اطار لجنة شهداء وجرحى الثورة وبدعوة منها بقصد المشاركة بإبداء الراي مع خبراء آخرين في مشروع قانون اساسي يتعلق بأحداث دوائر قضائية متخصصة للنظر في قضايا شهداء الثورة.
واذكر ايضا دون الدخول في تفاصيل كثيرة ان مشروع القانون الذي تم في الاخير استبعاده كان مشروعا غير دستوري ويتناقض مع مبادئ القضاء الطبيعي والمحاكمة العادلة فضلا عن ان اقراره كان سيؤدي الى التخلي عن الاختصاص الاستثنائي للمحكمة العسكرية ليتم تعويضه بإجراءات استثنائية من نفس الطبيعة.!
لكن اللافت للانتباه (على الاقل بالنسبة الي) هو دفاع استاذ القانون الدستوري قيس سعيد لا فقط على احداث دائرة خاصة بتلك القضايا، بل الاتجاه الى اقرار تركيبة مختلطة لها، غير مسبوقة ولا دستورية، تجمع قضاة واعضاء من غير القضاة يتم اختيارهم طبق معايير النزاهة والاستقلالية.!
لكن ربما علق بذهني هذا التفرد لأستاذ معروف، لم نكن قد سمعنا به قبل الثورة، غير انه لم يدر بخلد اي احد ان ذلك « المتفرد »سيصبح بعد خمس سنوات رئيسا للجمهورية وان يقول في القضاء (على الاقل فيما يخصنا) ما لم يقله مالك في الخمر.!
وللحقيقة فإننا لم نعد نستطيع ان نلاحق قيس سعيد في خطابه اليومي عن القضاء والقضاة وقضايا الناس المنشورة سواء بالتصريح او الاشارة حتى اننا اصبحنا نعتقد انه لا يبيت ليلته مرتاحا الا بعد الحديث عن القضاء او الهجوم عليه او حتى «ترذيله » في عيون الناس.!
فهل يمكن ان يكون قيس سعيد من الذين التبست عليهم حقيقة القضاء وموقعه في الدولة ودوره في حماية حقوق الناس وحرياتهم و ما عرفه تاريخه في البلاد من صراع من اجل افتكاك استقلاله وحفظ كرامته وترسيخ ثقة الناس فيه فيكون موقفه منه بسبب ان « الانسان عدو ما يجهل » ام أنه على خلاف ذلك اكثر العارفين بخباياه والمقدرين لخطورته والمدركين لأمراضه ومواطن ضعفه وحتى فساده فيكون هو الاجدر بان يتولى اصلاحه ويختص بالإشراف عليه!؟
أم هل ان اصلاح القضاء هو شان عام يخضع في كل دولة مدنية الى مبادئ ومواثيق ومؤسسات وهيئات ويقتضي وجوبا تداخل الجهات التي أوكل لها الدستور، او القانون، او الشرعية الانتخابية او توزيع الاختصاصات بين سلطات الدولة تنظيم العدالة والقضاء او ضمان حسن سيره واحترام استقلاله او إبداء الرأي في المقترحات ومشاريع القوانين المتعلقة به فيكون رئيس الجمهورية بذلك معزولا عن النظر في اصلاح القضاء خارح ما تسمح به سلطاته المشروعة واختصاصاته المحددة .!؟
لا شك ان قيس سعيد بحكم تكوينه القانوني وانتسابه للتقاليد الجامعية فضلا عن زواجه من قاضية كان والدها قاضيا ايضا(اشراف شبيل وتباشر عملها بالرتبة الثالثة بمركز الدراسات القضائية والقانونية)، لا يمكن ان يجهل بصفة شخصية واقع القضاء وحدود التعامل معه ومحاذير التدخل في شؤونه والتشهير به والانتقاص من قدره زيادة على معرفته الاكيدة بعوائق استقلاله الداخلي والتأثيرات الخارجية على قضاته.
كما نشير الى انه لم يكن يخفى حتى قبل 25 جويلية2021 ان قيس سعيد يشرف فعليا على وزارة العدل بواسطة عدد من القضاة المخضرمين! الذين اختارهم لأسباب شخصية لتولي مقاليد الوزارة السيادية (ثريا الجريبي، محمد بوستة، ليلى جفال.) ولذلك علينا ان نتساءل، هل ان قرب قيس سعيد من القضاء قد جعله في مفارقة عجيبة يضغط عليه الى حد الاختناق.! وايضا ما دور زميلتنا وزيرة العدل(ليلى جفال) التي لا زالت تنتسب للقضاء منذ 35 سنة وكذلك ما دور شريكنا في تحقيق العدالة وزير الداخلية ( توفيق شرف الدين)الذي انتسب للمحاماة منذ 26سنة وهما يشهدان ويشاركان (ربما بالنصيحة!) في تنفيذ «اعنف »المحاولات في تاريخ القضاء التونسي لإخضاع القضاة وامتهان كرامتهم والاستيلاء على مؤسساتهم تحت مظلة الاحكام العرفية ومكافحة الفساد: هل هكذا يعامل قضاة الدولة!؟