من ممارسات سلطة حالة الاستثناء هو التطبيق المتكرّر للفصل 23 من مجلة الإجراءات الجزائية، الذي كنا نقرأه ونمرّ عليه مرور الكرام حين قراءة المجلة، والفصل يسمح لوزير العدل أن يُبلغ الوكيل العام بـ"الجرائم التي يحصل له العلم بها وأن يأذنه بإجراء التتبعات" و"أن يقدم إلى المحكمة المختصة الملحوظات الكتابية التي يرى وزير العدل من المناسب تقديمها"..
فصل نادر الاستعمال من وزراء العدل على مرّ العهود أحيته سلطة الاستثناء، والحال أنه عدا ذلك فهو فصل غير دستوري لأنه يتعارض مع استقلالية السلطة القضائية عبر تكريس تدخّل السلطة التنفيذية في أعمال السلطة القضائية وتحديدًا أعمال النيابة العمومية، ولا أدلّ على ذلك أن لجنة مراجعة مجلة الإجراءات الجزائية صلب وزارة العدل (والتي تتكوّن من قضاة ومحامين وجامعيين ويرأسها الأستاذ البشير المنوبي الفرشيشي ودام عملها 5 سنوات بين 2014 و2019 بين استشارات ودراسات ووورشات) قد تخلّت عن الفصل 23 في المشروع الجديد لعدم دستوريته!
طبعا هذا الحديث لا يعني من لا تهمّه "الأشكال والإجراءات" أمام النتيجة المطلوبة. وربما يعتبرها مؤامرة حيكت على المقاس، طيّب لنتجاوز ما سبق.. تم تطبيق الفصل 23 من وزيرة العدل ليلى جفّال ومن خلفها قيس سعيّد في 5 مناسبات على الأقل منذ 25 جويلية:
1/ طلب فتح بحث تحقيقي ضد الرئيس السابق منصف المرزوقي من أجل تصريحاته حول قمة الفرنكفونية (15 أكتوبر 2021 بعد يوم واحد من نقد سعيّد في مجلس وزاري لعدم إثارة النيابة للدعوى العمومية).. وقد استجابت النيابة للطلب ثم صدر حكم غيابي عن المجلس الجناحي بابتدائية تونس ضد المرزوقي بالسجن 4 سنوات مع النفاذ العاجل.
2/ طلب فتح بحث تحقيقي في ملابسات وفاة الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي (28 ديسمبر 2021) بعد أيام من تصريحات إعلامية "للشيخ" محمد الهنتاني المعروفة اتهم فيها النهضة بتسميم الراحل.. واستجابت النيابة.
3/ طلب فتح بحث تحقيقي في ملابسات تسليم رئيس الوزراء الليبي السابق البغدادي المحمودي في صيف 2012 إلى الحكومة الليبية (بعد شبهات متداولة منذ سنوات حول وجود صفقة مالية وراء التسليم بين مسؤولين ليبيين وتونسيين من النهضة تحديدا)... واستجابت النيابة.
4/ طلب فتح بحث تحقيقي ضد رئيس اتحاد الفلاحة والصيد البحري عبد المجيد الزار وكلّ من سيكشف عنه البحث من أجل جرائم الاحتكار والخيانة الموصوفة والاستيلاء على الأموال العمومية' (28 جانفي 2022)... واستجابت النيابة.
5/ طلب فتح بحث تحقيقي في ملف "الجهاز السرّي" لحركة النهضة (22 جانفي 2022)... ولم تستجب النيابة لسابقية تعهّد قلم التحقيق بابتدائية أريانة بالملف.
الخلاصة والتساؤلات:
- 4 من أصل 5 تطبيقات للفصل 23 شملت حركة النهضة سواء بصفة مباشرة (الجهاز السري) أو بصفة غير مباشرة (وفاة السبسي/ترحيل المحمودي/الزار المحسوب على حركة النهضة) أما الملف الخامس شمل أول رئيس دولة بعد أول انتخابات ديمقراطية من أجل تصريحات معارضة للرئيس الحالي.
- الملف الوحيد المتعلق بالفساد المالي (احتكار وتلاعب بأموال عمومية) والمفترض أنه يشمل من كانوا محميين سياسيا بحكم مواقعهم وارتباطاتهم هو ملف الزار. فلنفرض أن طلب وزيرة العدل تأسس على تقارير، ولنفرض أن المعطيات الواردة بهذه التقارير تؤسس جديا للإدانة بتقدير السلطة التنفيذية، هل سلطة الاستثناء لم ترى ما يستدعي تطبيق الفصل 23 في علاقة ب"الرؤوس الكبار" (رؤساء المنظمات الوطنية ورجال الأعمال وقادة الأحزاب إلخ) إلا على الزار فقط الذي وللصدفة هو قريب من النهضة؟ الماجول رئيس منظمة الأعراف والذي تعلقت به شبهات منافسة غير مشروعة وقيادة وفاق للترفيع في أسعار الطماطم المعلبة خارج تغطية الرئاسة؟ دعنا من الماجول، لا يوجد رجل أعمال وحيد في هذا البلاد فلت من المحاسبة يستدعي المبادرة بتطبيق الفصل 23؟ أين خفافيش الظلام الذين تواطئت معهم النيابة العمومية حسب سعيّد؟ أين المتآمرين على قوت التونسيين؟
تطبيقات سلطة الاستثناء للفصل 23 م إ ج تعكس الوجه الحقيقي لهذه السلطة.. سعي لتطويع القضاء لاستهداف الخصوم السياسيين ولا منجز جدي في توظيف الفصل لمساءلة المشتبه بتورطهم في جرائم الفساد المالي والاستيلاء على أموال التونسيين.. لذلك من يسمونه رئيس الجمهورية ليس إلا رئيس الخديعة.