في ماي 1993 اخترع نظام بن علي "تنبري" المحاماة لجعل نيابة المحامي مكلفة ماليا لعرقلة تطوع المحامين في قضايا الحريات العامة، وتوسل الأم العجوز في أروقة المحكمة لآخر محام تراه لكي ينوب ابنها أمام "الماكينة الجبارة للقضاء والقاضي محرز بوقة والإيقافات العشوائية والاعترافات تحت التعذيب و تزييف المحاضر"،
واحد من صحابي هنا، هرب من الفقر والفراغ والظلم فسجل في جامعة سورية بلا باكالوريا منذ أكثر من ربع قرن ونشأ في حضن مليشيات حزب البعث، "بغضنا في شوية الحرية والدفاع عن الحريات" يستكثر على بعض المحامين الشرفاء، دفعهم كلفة "تنبري بن علي" من جيوبهم وتطوعهم للدفاع عن الكثير من ضحايا ماكينة السلطة التي تحلم بأكلهم في صمت.
"عمي الراجل" يشكو من "البوليسية يشدوا والقضاء يسيب" ومن فساد المجلس الأعلى للقضاء، يوهم الناس أن هذا المجلس يملك ملفات قضايا ويحكم فيها، لا يعرف حتى تركيبة المجلس ولا اختصاصاته، لا يعرف ولا يؤمن بقرينة البراءة، هو يكره القضاء لأنه تربى على عقيدة الزعيم الكوني الأوحد الذي يورث الحكمة والزعامة لابنه المقدس بالولادة غير بعيد عن عقائد الشيعة العلوية مع شيء من الكلدانيين والإيزيديين، تحرمه من تصور مجتمع يتقاسم فيه الناس السلطة ويراقب بعضهم بعضا فما بالك بالتداول السلمي على السلطة، يحلم بقضاء البوليسية والمليشيات والمخابرات العسكرية ولا يجد بعضهم حرجا في المطالبة بمحاكمة الناس خارج القضاء، بالمزاج العام، توقفت عندهم العدالة عند حد محاكمة الساحرات في القرون الوسطى، تعجبهم وتلاقي هوى عندهم،
أنا صحفي عجوز تعلم كيف يصطاد الحظة لتوثيقها من باب الشماتة والنكاية أحيانا، لكي لا يكذب علينا أحد، كثيرا من باب كل واحد يعرف مقامه، حياتي مليئة بمحامين سيئين، بدءا بمن رهن مصوغ عرس أمي لكي يدافع عني في قضية حرق جزء من حشايا مبيت معهد تاجروين التي لم أقترفها في مظاهرة أطفال "اقترفها أبناء الأغنياء المعتوهين ووحل فيها أبناء الفقراء"، أطلقوهم جميعا ولم يفطن لي أبي الفقير إلا بعد أن افترسني قاضي التحقيق الذي أصبح محاميا ثريا في المدينة في ما بعد، يسمسر في قضايا العائلة والأملاك غير المسجلة، مازلت أحلم بلقاء معه، أرتب فيه الاشياء العنيفة التي سببها لي، دون أن أقتله،
أما المحامي الذي رهن مصوغ أمي فقد أصبح أحد أثرى أثرياء مدينة الكاف، لم أره إلا يوم الجلسة حيث قضى أقل من ثلاث دقائق في طلب الرحمة لي وتركني مقيدا حائرا صغيرا عاجزا مذهولا وذهب مستعجلا لأشياء أهم مني مع انهيار أمي وأبي ومن حضر من أهلي بحكم بالسجن لخمس سنوات من أجل إضرام النار في محل مسكون ونصف عام من أجل الإضراب بملك الدولة، ما يسعدني أني بصقت في وجهه في مكتبه الفاخر بعد عامين ونصف من ممارسة الصحافة، وقلت له كلاما بذيئا كثيرا، مستندا إلى أن البصاق ليس جريمة حتى إن كان على الوجه حسب ما قاله لي مساعد وكيل الجمهورية وقتها، حتى إن كان على وجه واحد من وجهاء المدينة وممولي تجمع الفساد والإفساد،
لكن سندي الحقيقي كان أحد أصدقاء سجني المطول وقتها بشير الجلاصي" رحمه الله، أو "بشير العاصي" كما كان يسميه عصاة وإباندية باب البحر وخلايق الحوم والبحر الأزرق والكبارية والسيجومي في سجن تسعة أفريل المهدوم، قال لي: "ابصق عليه أو (....) عليه وتعال إلي بيتي سأتفكل بكل شيء، كان بشير "خليقة" حقيقيا منذ سن الثانية عشر، وقد شق طريقه بالبونية وسط السلطات التاريخية لعائلات اللوبيات والسياسة في مدينة الكاف، عرفته مرارا في سجني الكاف والقصرين وفي أيام المحن، وكان رفيقي في آخر أيام عقوبة السجن الانفرادي والعزل، حيث اكتشفت كم كانت الرجولة والبونية قادرة على إعادة صنع التوازن في هذا العالم البذيء،
شريكي في القضية صديق أحبه وأجله حتى اليوم، كان محاميه هو الأستاذ نجيب الحسني، محام ومناضل حقيقي وقد رافقته في رحلة حميمة مرة من الكاف إلى بوسالم للعزاء في وفاة شقيق عميد المحامين وقتها، قاتل لأجل صديقي بشراسة أسد بمرافعة من أكثر من نصف ساعة "برد فيها على القلب"، فأخرجه منها بنصف عام مؤجل التنفيذ وأنا أكلتني الماكينة الجبارة بين سجون الوطن لثلاثة أعوام، التقيت الأستاذ نجب الحسني، قبل أن ينكل به النظام وبعدها، ولا أتذكر أني رويت له الحادثة، ورغم ذلك لم تزدني هذه المهنة سوى حبا للمحامين المناضلين شاهدا على الأوقات الصعبة لهذا الوطن المنكوب بالسلطة الظالمة،
كم أحب هبة بعض أصحاب الزي الأسود من أجل العدالة في حد ذاتها، من أجل الإنسانية ودعاء رحمة الوالدين الذين كبروا وقروا، كان ذلك الأمل الأخير لهم ولو كان المحامي الأخير في العالم، قبل الاستسلام للانهيار، وهو يرتدي لباسه الأسود ويتقدم نحو منصة المحكمة ليعلن "النيابة"، يطلب الإفراج المؤقت، وقتها، أنت "عمي الراجل" كنت تتلقى دروس الطاعة والخضوع مقابل الشهادة الجامعية المزيفة، لكي تعود لنا وتفتي لنا في الحريات،
أنا صحفي بذاكرة انتقائية مزاجية رأس مالها الرجولة والإنسانية وكرامة الإنسان، أحتفظ بشكل دقيق بذاكرة تفاصيل يوميات الخزعبلات التي يستعملها الحاكم لجعل مقاومة الطغيان عملا مضنيا ومكلفا وخصوصا تحويل مهنة المحامين المتطوعين للدفاع عن قضايا الحقوق العامة إلى شنعة وضنى يومي، لذلك اخترع الجنرال بن علي "تنبري" المحاماة، ضريبة تهدف إلى جعل "الدفاع التطوعي" مكلفا ماليا عندما كان يهرع إليه الكثير من شرفاء المحاماة في تلك الهجمة الدموية للنظام في بداية التسعينات على الناس ومنها أنصار رابطة حقوق الإنسان وعلى المحامين الذين أصبحت مكاتب الكثيرين منهم خاضعة لمراقبة الدخول من البوليسية،
اللعنة على كل من لا يتذكر مكتب الأستاذ عياشي الهمامي وما حدث فيه ولكل ما أساء لهذا الرجل، وكان ثمة دائما محسوبون على الصحافة وأشخاص لا أحد يعرف من أين خرجوا لنا ولا بأي مبرر يقررون أن إغلاق مقر المجلس الأعلى للقضاء هو الحل الوحيد لفساد هذا المجتمع الذي يمكنك أن تشتري فيه "صحفيا" أو مؤسسة إعلامية بأسهل مما تشتري حذاء،
لذلك لا تبدو لي اليوم الهجمة على القضاة ولا على المحامين المتطوعين أو أي محام ينوب في قضايا الحقوق العامة غريبة، ولا يبدو لي موقف صديقنا الذي اكتسب "لحم اكتافه" من عقائد القمع والمصادرة وتجريم الفكر والدفاع عن الحقوق والمبادئ غريبا عن هذا الوضع، فهي كلها مقدمات منتظرة للأسوأ، إنها تكرار لما حدث في 1993، حيث كان الصحفي النزيه، يتلفت حوله فيجد نفسه وحده، أقرب الناس إليه يقول له: "بره روح، فيسع، لا تلتفت وراءك"، حيث الصحافة هي أكثر القطاعات هشاشة وقابلية للتدجين، اسألوا من عاشوا تلك الأيام الشاقة،