بصرف النظر عمّا اذا كانت "حرية التعبير" مكسبًا مشتركا، مُثبّتًا الى غاية تأصّله في القيم وفي الثقافة (كنمط سلوك) او دون ذلك، وبعيدًا عن دور المؤسّسات (الرّسمية وغير الرسمية) في ارسائها وفي الحفاظ عليها او في التفريط فيها، وبعيدًا عن دور الدولة في حمايتها او التخلّي عنها، فانّ هناك جانبًا قد ننساه في بعض الاحيان وهو ذلك المتعلق بالذوات وبالاشخاص حيث يضع البعضُ قيودًا ذاتيّةً لمجال التفكير وبالتالي لمجال الحريّة في التعبير. وقد تختلف الاسباب لذلك ومنها ما هو مقبول ومنها ما هو غير ذلك.
ومن بين القيود الذاتية التي يضعها الفرد ضدّ نفسه في التعبير الحرّ في الفضاء العام حتى وان كان هذا الاخير يسمح بذلك، يمكن الاقتصار على الآتية:
- عدم الانخراط الفعلي في الشأن العام، وعدم التفكير في الاخذ بالمبادرة والمساهمة في التغيير. فاصحاب هذا الوضع، ينتظرون الى ان يتغيّر الواقع سلبا أو ايجابا حتى يتأقلموا معه أو يستفيدوا منه. هؤلاء ضمّنهم ماركس في “أصحاب فلسفة التأمّل” وليست “فلسفة التغيير”، وهو ما يُعبّر عنه لدينا “بالفيراج” الذي يدعم المنتصر.
-يرى بعضُ المتخصّصين في علم النفس الاجتماعي، انّ رغبة أو حاجة الانتماء الى المجموعة والاحتماء بها تغلبُ في بعض الاحيان رغبة آو حاجة التعبير عن المواقف الشخصية التي قد تصطدم مع راي الاغلبية. واذا دقّقنا في هذه المقاربة، نجد انّ الاغلبية -التي لا تضمّ النخبة المثقفة بالضّرورة- تعاقب من يخالفها الرأي وانّ تداعيات هذا العقاب تتسلّط على الآراء المنفردة أو الخلاّقة. وأنّ الاختلاف في الآراء يمتدّ الى الاختلاف في التعامل الانساني، وهذا واقع المجتمعات التي لم تتصالح مع مرجعياتها وأسس ثقافتها، بحيث يُصبح الانطباعُ والذاتيّة سيّدَىْ الموقف في الخوض في الشأن العام، وتغيب بالضرورة الموضوعيّةُ والعقلانيّةُ في العلاقات الاجتماعية وبالتالي في معالجة الشأن العام. وقد يكون هذا ناتجا عن غلبة “الظاهر” (Le Paraitre) على “الكيان” (L’Etre).
واذا كان الامر كذلك، فهي مصيبةٌ -ما لا أتمنّاه- تحيلنا الى ضرورة مراجعة مناهج التربية والأُكلة الثقافية اليومية وأسُس تكوين الاسرة وتداعيات الخطاب الرسمي حيث غلبة الأنا في ظاهره وتضَخّمه تكون مرآةً للسُّلّم الاجتماعي والسّلّم القيمي ومعايير النجاح في المجتمع!
ولذلك، يفرض “الظاهرُ” نواميسهُ ويوجّه محتوى وسعة التعبير ويحدّ من فضاء الحرّيات والمطالبة بها حتى ولو كان فسيحًا.
ولا أعتقد أنّ النهضة الثقافية اللّازمة وبالتالي العلمية وارساء مجتمع متوازن، متصالح مع نفسه غير ممكنة ما لم تنعكس الآية ويصبح “(L’Être)” سيّدَ المواقف، وذلك هو جوهر المواطنة.