من المعوّقات التي حالت دون الارتقاء بالوعي ودون الوضوح في الخطاب ودون السيطرة على المواضيع المتضمّنة للقضايا المشتركة، هو الاستعمال العشوائي والمُكثّف للمفاهيم المُعتمدة عالميا وفي الادبيات واستهلاكها عبثًا في الفضاء العام الى حدّ تسطيحها وافراغها من محتواها بما يتداعى ذلك سلبا على السياسات العمومية؛ مفاهيم، افنى اصحابها العلماء وصُنّاع الرأي الجهد الكثير والتفكير العميق وفي بعض الاحيان العُمُر في بنائها وتطويرها واستعمالها، وخاصّة في أبعادها وتبعاتها، بما لهم من مُقومات وشروط التفكير السليم والعميق وخاصّة من الاستقلالية الفكرية!.
وقد تختلف هذه المفاهيم حسب المجال وكذلك حسب مستوى التجريد ومنسوب التركيز والكثافة. ومنها التقني العملياتي الأقل تعقيدًا من المفاهيم المجردة، مثل الحيّز الجبائي واستدامة الدّين واستقلالية البنك المركزي والاصلاحات والمؤسّسة والانتاجية وطباعة الاوراق النقدية (حتى وان كانت هذه المفاهيم مرتبطة ببناء نظري معقّد نوعا ما) ومنها النظري البحت المرتبط بالمجتمع والسّلطة مثل دولة القانون والمؤسسات، والفصل بين السلطات، والشرعية والمشروعية، والديموقراطية، ونُظم الحكم… كلُّها مفاهيم استُعملت تقريبا يوميّا منذ عشر سنوات من قِبل غير المتخصّصين في مواضع غير ملائمة وبالطريقة الاقرب إلى الخطأ منه الى الصّواب.
فأصبحت التنمية هي المشاريع في الجهات المحرومة، والديموقراطية طرفًا تنصبّ عليه الشتائم زمن الخيبات وكأنّها ضيفا غير مرحّب به، والشفافيةُ محاكماتٍ اخلاقية وهتكًا للأعراض في وسائل الاعلام، ومحاربة الفساد ترويجًا إعلاميًا لمبادرات ضيقة النطاق، والاصلاحات ادارةً يوميةً للشأن العام ….
وقد تطوّرت الامور الى أن استشهد رئيسُ الحكومة ذات جلسة برلمانية عامّة بالأطروحة الحادية عشر لكارل ماركس حول فيورباخ بانّ الفلاسفة تأمّلوا في الكون وحان الوقت للتغيير و”وناقشوا لتونس”. وهي اطروحةٌ من ثمرات عمل فكري لصاحبها الذي أفنى عمرَه لتحقيق مشروعه بالرجّوع أساسًا الى هيجل -الفيلسوف العملاق- والفلسفة الالمانية، والاشتراكية الفرنسية، ونمط الانتاج البريطاني…
وكانّ المتدخلين في الفضاء العام يعمدون استعمال مفاهيم مبُهمة بالنسبة الى العامّة لتبرئة واقع في تقهقر أو لانتقاد خصم سياسي أو للهروب الى الامام وعدم القدرة على محاورتهم.
وأخيرًا، تُطرح فجأةً قضية مفهوم "المجتمع المدني" حسب هيجل وڤرامسكي، حيث يحتاج الأول الى منهجية الجدلية - في نظرية المعرفة- وتطبيقاتها في المجتمع، والثاني انّما هو قراءة لمفهوم الاوّل- حيث لا يسيطر على هذا المفهوم الاّ العدد القليل من المتخصّصين- ثمّ الذهاب قُدُمًا نحو "مفهوم مغاير" و"جديد" لمْ تُحدّد ملامحُه ولا أعتقد أنّه سيكون أعمق ولا أجدر ولا أدق مما ذهب اليه كبار المنظرين، اي هيحل وماركس وكانط وفريشت، باعتبار عدم شروط ذلك حاليًّا.
وفي نفس الوقت، رجعتُ الى نفسي فوجدت انّ اغلب نشرياتي ومواقفي ومناقشاتي لم تتعدّ حدّ الافصاح بالمفاهيم والتعريفات ولم اتطرّق الى التحاليل والمقارنات والمُقترحات إلاّ نادرا.
وهذا أمرٌ مُتعِب جدّا، علّه يكون مناورة من السفسطائيين الذين يتكلمون لكي لا يقولوا شيئا ويتصدّرون المنابر ومواقع القرار لملء الفراغ وإرهاق الاخرين واخذهم الى متاهات كم نحن في غنىً عنها….