من حرب أوكرانيا إلى خارطة ماغون والرومان وفرنسا مرورا بالجوع المتوقع،
إحدى قريباتي سمعت هذا الصباح أن بيع الماقرونة أصبح بالتقسيط: كيلو فقط لكل حريف، وهذا ليس صحيحا طبعا، لكن غياب الاتصال الحكومي هو السبب في تفشي الإشاعة والفزع والخوف من النقص في الثمرات، رئيسة الحكومة لم تقل لنا سوى "ما شاء الله سيدي الرئيس"، والسيد الرئيس ما يزال يتحدث عن الآخرين اللصوص الذين لم نعرف على وجه الدقة لماذا لم يحاسبهم طالما أصبح يحتكم على كل السلطات الشرعية وغير الشرعية بما فيها إقالة رئيس بلدية مستقيل في قرية لا يعرفها سوى سكانها، لكن السيد الرئيس لا يستطيع أن يوفر لهم الزيت المدعم أو السميد،
وحكاية نقص الماقرونة أو السميد أو حتى الزيت واشتعال النار في أسعار اللحوم حقيقية، حيث المحتكرون مجرد غطاء للحقيقة ونتيجة اقتصادية وليست سببا: نقص فادح في العرض بسبب نقص أموال الدولة يؤدي إلى الاحكتار.
المشكل سهل وواضح: الرومان منذ 18 قرنا أعدوا أول خارطة فلاحية لهذه الأرض، لم يبنوا مدينة إلا حول منبع ماء وحقول للغذاء الأساسي vivier بناء على أفكار المعلم العظيم في الفلاحة ماغون القرطاجني التي ترجموها إلى اللاتينية في 28 مجلدا لتعليم الدولة كيف تضمن غذاء سكانها،
دولتنا سمحت بتحويل أراضي الغذاء إلى مساكن شعبية أو فاخرة يضارب فيها مبيضو الأموال بالحبل بدل التخطيط لمدن جديدة وفق المبادئ الرومانية، الأندلسيون أعطونا أول خارطة فلاحية محلية أدخلوا فيها القوارص في الوطن القبلي وحوض مجردة والسفنارية والجلبانة، حتى أن الاستعمار الفرنسي لم يجد ما يضيفه في خارطة 1923 غير تثبيت ما حفظه التونسيون لضمان غذائهم: حوض مجردة للخضر والغلال، الشمال الغربي للماء والحبوب والغابات، الوطن القبلي للقوارص والخضر الورقية تحت الشجرية، الساحل للزياتين والأسماك، الوسط للمراعي واللحوم، الجنوب للواحات والتمور،
بعد الاستقلال فسدت الخارطة ودخلت بعضها حين أممت الدولة أراضي الأحباس والعروش فنزح مئات الآلاف ممن كانوا يعيشون فيها إلى أحياء القصدير حول المدن، منها حي الظلام وحي نقز على أراض لم يخلقها الله للسكن بل لخلق الغذاء، في 1983، عملت الدولة الوطنية أول خارطة فلاحية وطنية مرقعة بلا استراتيجيا ولا هدف، خرج منها الفلاح أكبر خاسر، النتيجة: أكثر من 80% من الفلاحين شيوخ يقاومون بالنفس الأخير للبقاء على قيد الحياة، 85% من الأراضي الفلاحية أقل من 10 هكتارات، بما يجعل كل واحد منهم فريسة فردية لبنوك الإقراض الفاحش في كل موسم، الرومان جعلوا من ضاحيتي مرناق والمحمدية le vivier للعاصمة حيث لا معنى لجلب البصل من قابس مثلا، فأصبحنا نستورده من مصر لغياب أي تخطيط لخارطة "من ينتج ماذا، أين وبأية كلفة"،
قبل كل هذا: سكرة كانت منطقة فلاحية تضمن للعاصمة القوارص والخضر ولا يمكن أن تصلح أرضها للبناء أصلا، خارطتنا الفلاحية الحالية هي عام نسكب الحليب في الأودية وعام نستورده، عام نتلف البصل وعام نستورده، "كان صبت اندبي وكان ما صبتش أندبي أيضا"، لأنه لا أحد يعرف ماذا يفعل حقا في هذا الوطن الكئيب.
مرناق تحولت إلى منتجع للإقامات الثانية للأثرياء، البطان بيعت قطعا والآن كل الوطن القبلي يباع علنا بالحبل، الدولة تملك نصف مليون هكتار من أخصب الأراضي، لكنها لا تعرف عنها شيئا، الدليل: أعرف واحدا يحتكم على 750 هكتارا من أخصب أراضي تونس، يخصصها فقط لسهرات نهايات الأسابيع مع أناس يزعمون أنهم متنفذون في الإدارة، هذه الإدارة التي تعرف وترى أن 40 %من الماء يضيع في شبكات النقل والتوزيع وأن أكثر من 20% من صابة الحبوب تضيع في التجميع والتخزين، لكن، حتى إن وجعك قلبك لذلك، فأنت لا تقدر على شيء لإنقاذنا من العطش والجوع المتوقعين حيث الماء أثمن من الإنتاج نفسه (كيلو الطماطم 750 لترا من الماء) وحيث طورت المجمعات التي تعاني من شح المياه، أنظمة الري الذكي، لأنها آلة بيروقراطية صماء ضخمة، حيث يحس كل مسؤول فيها أنه مجرد "بولونة" صغيرة يمكن انتزاعها لمجرد مزاج سياسي وليس صاحب مشروع أو رؤية موضوعية يحاسب عليها، صاحب الـ750 هكتارا من أراضي الشعب التونسي أفشل كل محاولات تنفيذ الأحكام القضائية الصادرة ضده في الخروج منذ عشرة أعوام مثل مئات غيره، إن حسن استغلال نصف مليون هكتار من أخصب أراضي تونس تملكها الدولة من شأنه أن يفض مشاكل نقص الحبوب والخضر والأعلاف ويشغل أكثر من نصف مليون شخص،
أعطني عشرة هكتارات في البطان وسوف أشغل لك: 20 عاملا قارا و30 موسميين، خمسة تقنيين وثلاثة مهندسين، سأضع معهم خططا تضاعف الإنتاج وتخفض الكلفة وتربط الإنتاج بحاجيات البلاد وسأتحالف تجاريا وصناعيا مع فلاحين آخرين من أجل تقاسم أعباء التوزيع في تعاضدية من أجل القضاء على الوساطة لتخفيض ثمن البيع، وسنخفضه حقا لأن الوسيط أصبح في النظام الفلاحي يأخذ أكثر من الفلاح البائس، ذلك الذي تفرض عليه 60 دينارا (19 دولارا) لقنطار القمح الذي يتكلف لك عند التوريد بأكثر من 110 دنانير، الفلاح الذي تفرض عليه زيادة بأكثر من 60% في ثمن أعلاف الحيوانات للوسطاء فيما يمكن أن نخفض كلفته بأكثر من النصف لو أنتجنا جزءا كبيرا منها في أرضنا مع القضاء على الاحتكارات والوساطات،
قلبي معبي، لأن بلادنا عاجزة عن التوازن بين العرض والطلب وسوف يتفاقم الأمر، وعليه فإن أي حديث، سيدي الرئيس عن أشرار الاحتكار غير منطقي، لأن النقص هو الذي يصنع الاحتكار والخوف والتوجس، خصوصا في ظل الصمت وإنكار الحقيقة، بلادنا قضت على الفلاحة وعلى الابتكار واستثمرت في الوساطة والسمسرة والقشارة، وكنت أتوقع أن نتقبل الانقلاب على النظام الديموقراطي لو كانت لكم حلول حقيقية، وأولها في الفلاحة، والآن، حيث ستنقص الثمرات في العالم كله وسنكون أول ضحايا هذه الحرب بسبب موقفنا المالي البائس وبسبب اللهفة والخوف من اضطراب التزويد، ماذا ستفعل لنا سيدي الرئيس مقابل صلاحياتك المطلقة؟ أنا أكره الإحالات إلى المحكمة العسكرية بسبب قضايا الرأي والنقد، حتى إن كان حادا، لأنه ليس أقل حدة من الجوع والخوف،