سبعة أشهر انقضت بالتمام والكمال منذ إعلان رئيس الجمهورية إجراءاته الإستثنائية التي كانت الغاية منها حسب نص الدستور عودة السير العادي لدواليب الدولة بعد زوال الخطر الداهم. طالت المدة الزمنية دون حدث بارز يؤكّد لنا مدى خطورة التهديدات التي تطلبت تلك الإجراءات ودون عودة دواليب الدولة إلى مسارها الطبيعي ليتأكد لنا زوال الخطر الداهم. ها نحن اليوم أمام وضع راهن مبهم والجميع يترقب ما ستؤول إليه الأمور.
بالعودة إلى نقطة البداية إثر إعلان25 جويلية تعالت الأصوات من هنا و هناك بين مساندين و معارضين و بين متفرجين لا هم إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء. فأمّا الصّف الأول ممن ساندوا سواءا كانوا يرغبون من خلالها في واقع أفضل مما كانت عليه البلاد من قبل أو لغاية في نفس يعقوب اكتشفناها لاحقا لم يحضوا باعتراف الرئيس بهم ولا يعود إليهم ليستشيرهم.
وأمّا الصّف الثاني عارض ولا يزال معتبرا ذلك سوء تطبيق للفصل 80 الدستور و خروج عن العقد الإجتماعي و تغيير لقواعد اللعبة الديمقراطية وهو أمر خطير لما يمكن أن ينجرّ عنه لاحقًا ولا يزال الرئيس يزدريهمو يقلل من شأنهم إلى يوم النّاس هذا.
و أمّا الصّف الثالث أو أصحاب اللارأي فلن أخوض في شأنهم فلا فائدة من تحليل شيئ معدوم الوجود. تلك إذا كانت نقطة البداية اكتفى فيها الجميع بالموافقة أو الرفض على أسس قانونية و دستورية بالأساس دون خوض في تفاصيل التمشي أو المنهجية-إن وجدت- المتبعة المفروضين بسلطة الأمر الواقع واعتمادا على القوة الصلبة للدولة.
إنّ الجانب القانوني على أهميته لم يكن أهمّ شيئ بالنسبة لي لأنّ القانون جعل ليطّبق و في تطبيقه قد تحدث إخلالات - طبعا دون التقليل من فضاعة الخلل البارز في تفعيل الفصل 80 من الدستور- ولكن كان غياب التشخيص و التقييم الموضوعي وانعدام التوصيف الدقيق للخطر الداهم إثر خطاب 25 جويلية أهم نقطة على الإطلاق بالنسبة لي.
يمكنكم العودة إلى الخطاب ستجدون أن أغلب الوقت خصص لتقديم الإجراءات إضافة إلى الوعد و الوعيد دون سرد أو تفصيل للأسباب التي دفعت الرئيس إلى إعلان إجراءاته. كان ما باب أولى تحديد مفهوم دقيق حتى تتشكل صورة واضحة لدى جميع الفاعلين من أحزاب و مجتمع مدني و أصحاب الأعمال بالإضافة إلى الإعلام لنقل الصورة واضحةً إلى عموم الناس. أعتقد أنّ ذلك الغموض لم يكن عبثيّا، بل كان مقصودا لتشتيت الآراء والأفكار والمعارضة. إن غموض الصورة التي لا تتضح إلاّ في مخيلة الرئيس دفع شق كبير ممن كانوا يتصدرون المشهد السياسي إلى مزيد من الترقب و الإنتظار وهو ما مثّل عنصر هام للرئيس لربح الوقت والتقدم بخطوات بطيئة، ولكنها دوما في نفس الإتجاه.
طبعا اكتشف الجميع لاحقا نوايا الرئيس أو من يدفعونه إلى ذلك و تبينوا ولو متأخرين أنّ شيئًا ما يحدث و صار الخطر الداهم يتفرّع إلى أخطار تهدد كل المكتسبات الديمقراطية و تنذر بمستقبل داكن اللون و أشدّ سوادا من العشرية المنعوتة بالسوداء من طرف من لم يجدوا حظهم من إرادة الشعب عن طريق صندوق الإنتخابات.
لا مجال للعودة إلى الوراء فكل تنازل من المهندسين لإعلان 25.07 يعدّ رِدّةً لذلك كان قمع المتظاهرين بأبشع الطرق و تم منعهم من الوصول إلى الأماكن المعلنة رغم موافقة وزارة الداخلية مسبقا في عديد المرات.
هنا ألا يحق لنا أن نتساءل: ألا يعد منع المواطنين من حقهم في التظاهر السلمي خطرا داهما على حرية التعبير و حرية التنقل؟! و عندما يجمّد البرلمان و يمنع النواب من التعبير عن إرادة من انتخبهم، ألا يعتبر ذلك خطرا داهما والتفافا على إرادة المواطنين و حقهم في اختيار من ينوبهم؟! ألا يعتبر خطرا داهما أن يمسك الرئيس رأسي السلطة التنفيذية و يضيف لها السلطة التشريعية ؟! أليس الخطر الداهم الحقيقي هو أن يقسم الحاكم شعبه بين مساندين بمثابت الطامعين في المناصب و معارضين في سلة الخونة؟! ألا يعد خطرا جاثما عندما يلعن الرئيس صباحا مساءا القضاة و يأسف لثبوت براءة مواطن برّأته المحكمة ولم يكتفي بذلك بل أغلق هيكلاً انتخبه القضاة بأنفسهم ليعنى بشأنهم؟! أليس بخطر داهم جاثم و عبث رثًّ أن يطعن الرئيس في هيئة الإنتخابات وهي التي شهد لها جلّ المراقبين في الداخل و الخارج بنزاهتها، بل أكثر من ذلك كانت هي من أشرفت على الإنتخابات الرئاسية التي فاز فيها من ينتقدها اليوم فيستبعدها و يقيم إستشارة إلكترونية على مزاجه دون إشرافها عليها؟!
ألا يعدّ خطرا داهما حينما تصدر رئاسة الحكومة مناشير تمنع فيها الإعلام العمومي من استضافة ممثلين عن الأحزاب السياسية؟ أليس من العبث أن يتحوّل موقع واب وزارة التعليم العالي والبحث العلمي إلى منصة دعاية و إشهار للإستشارة الإلكترونية بدل دعم الباحثين والطلبة في مشاريعهم العلمية؟! ألم يُضرب ناقوس الخطر عندما ينشر المعهد الوطني للإحصاء في المسح الأخير أنّ 39 ألف مهندس و 3300 طبيب غادرو تونس بين 2015 و 2020 و أنّ قرابة 20 بالمائة من التونسيين الذين تتراوح أعمارهم بين 15 و 24 سنة لديهم نية للرحيل من تونس. هل هناك خطر داهم أشدّ خطرا من كلّ هذه المخاطر؟!!
هل يقبل ذي عقل كلّ هذا و يحتفظ ببصيص أمل في مستقبل بلده و مستقبل أولاده أمام كلّ هذا الهراء؟ من منّا يطمئنّ عندما يكتب مواطن أعزل مقالا (مكتوبا)، ينتقد فيه هذا المسار محبة في وطنه و غيرة عليه و خوفا عليه من عبث حاكم لا يرى إلاّ صورته ولا يسمع إلاّ صدى صوته، فيحال على محكمة عسكرية و توجّه إليه تهمة المسّ من المعنويات القتالية للجيش و إحباط عزائم الجنود في الذود عن حرمة الوطن، أو يحاكم بتهمة هضم جانب موظف عمومي ولا يخضع هذا الأخير الذي من المفروض أنه في خدمة الأول إلى أيّ تتبع قانوني عندما يصفع مواطنا يمرُّ من أمامه دون سبب مقنع!!
هل ذلك هو عدل عمر بن الخطاب الذي وعد به رئيس الجمهورية من دعاهم إلى انتخابه قبل ما يزيد عن السنتين أم تلك هي دولة القانون التي سنتركها إلى الأجيال القادمة أم أنّ الشعب (الذي لم نعد نعرفه) يريد؟