في خضم الغزو الروسي لأوكرانيا، ربما لا اختلاف أن الدافع الأساسي، بل وهو المعلن، للغزو هو حماية روسيا لنفوذها في أوكرانيا، ومنه تفصيلا إرجاعها دولة تبعية (أي حالة بيلاروسيا وكما كانت أوكرانيا زمن الرئيس المعزول يانكوفيتش الموالي لموسكو والذي للتذكير هو من النخبة السياسية لدونيتسك التي استقلت من طرف واحد عن أوكرانيا هذا الأسبوع) أو توفير ضمانات البقاء كدولة عازلة (أي عدم الدخول الناتو وما يعنيه من تهديد أمن قومي لروسيا وللتذكير أن البلدين تجمعهما حدود تتجاوز 2000 كم، ودخول كييف الناتو سيجعل جل حدود روسيا الأوروبية مع الناتو (حاليا تحدها بريا فقط من الناتو إستونيا ولاتفيا، وتعارض انضمام أوكرانيا وأيضا فنلندا - بوتين هدد أمس هلنسكي بنتائج سياسية وعسكرية حال انضمامها للناتو).
هذا الدافع جوهري، نعم، لكنه يتقاطع في المقابل مع سردية تاريخية ليس فقط للنفوذ السياسي والعسكري لموسكو على كييف (يعود لقرن من الزمن مع الاتحاد السوفياتي)، بل أيضا للنفوذ الاجتماعي والروحي (يعود لقرون)، بل الأكثر، وفي هذا الصنف من النفوذ، هناك صراع شرعية تاريخية بين العاصمتين: أسطورة نشأة العرق السلافي ورمزية تمثيل الأرثوذكسية الشرقية.
في الداخل الأوكراني، المجموعات الانفصالية الموالية لموسكو ليست ظاهرا صنيعة الاستخبارات الروسية، بل هي نتيجة توتر صراع هذه الشرعية، ومقابلها الأشد هو خط القومية الأوكرانية المعادي للقومية الروسية والمنازع لها.. وفي الداخل الروسي أيضا، يوجد خطاب قومي سلطاني، عبر عنه بوتين في خطاب إعلان الحرب، مفاده أن أوكرانيا صنيعة سوفياتية (في علاقة بدور الاتحاد السوفياتي في تمدد مجالها الجغرافي وإنشاء بنيتها التحتية الصناعية والفلاحية)، وأن موسكو أغدقت عليها ربع مليار دولار بين 1991 و2013، خطاب إعلان الحرب كان إعادة سرد تاريخي لنشأة أوكرانيا الدولة من وجهة نظر روسية قومية، لدرجة أنه قال صراحة أنه المفترض اسمها "أوكرانيا فلاديمير ايليتش لينين"، والتعبير الأوضح حول شرعية امتلاك أوكرانيا الدولة والأمة أيضا قوله أنها "ليست مجرد دولة مجاورة لنا، فهي جزء لا يتجزأ من تاريخنا وثقافتنا وفضائنا المعنوي".
يمثل العرق السلافي العرق المرجعي جينيا لما تسمى الشعوب السلافية اليوم المنتشرة في وسط أوروبا وشرقها وجنوبها، ومنها بالخصوص الروس، أكبر مجموعة سلافية شرقية عدديا، ومنهم الأوكران.. كانت كييف أول عاصمة تاريخيا للسلاف الشرقيين، وتعتبر مسقط رأس الأمة السلافية التي تممدت لاحقا نحو الشرق في العصور الوسيطة التي نشأت خلالها أيضا دولة "روسيا كييف"، مراجع في دراسة الأنساب، تقدر أن أول موطن للسلاف يوجد في حوض دنيبر في أوكرانيا.. القومية الروسية الحديثة تعتبر أوكرانيا امتداد طبيعي لها، وأن كييف هي بالضرورة تابعة لموسكو باعتبارها عاصمة التطور التاريخي لدولة السلافيين، وهذا ما تجادل به القومية الأوكرانية التي تعتبر نفسها الأصل السلافي وما بعدها توابع.
الصراع لا يقف هنا، بل يمتد للديني الروحاني.. في عام 2018 أي قبل 4 سنوات، نشأت الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية المستقلة - بطريركية كييف بوصفها كنيسة مستقلة عن الكنيسة الأرثوذكسية الأوكرانية- بطريركية موسكو، الأقدم تاريخيا، كنتيجة للتوجه للاستقلالي التام داخل كييف عن موسكو.. هنا توتر شرعية آخر، تحول السلاف للأرثوذكسية قبل القرن العاشر على يد أمير دولة كييف، لتنتشر الأرثوذكسية في كامل شرق أوروبا، ظلت الكنيسة مستقرة في كييف قبل تحولها إلى موسكو في القرن السابع عشر، وهو ما تواصل على امتداد القرون اللاحقة، وكانت الكنيسة الأوكرانية مرتبطة عضويا وروحيا ببطريركية موسكو، ولكن هذا ما تغير عام 2018 بنشأة الكنيسة الموازية، وهو ما رفضته بطريركية موسكو باعتباره تمردا، بل كسرا للوحدة الروحية للأرثوذكسية الشرقية.. لا حاجة هنا للتذكير بالدور الديني الروحي في التصور التوسعي لبوتين، وهو الأرثوذكسي المؤمن.
طبعا كل ما ذكرته لا يبرر بأي شكل الغطرسة الروسية على العكس وجدانيا متعاطف مع الشعب الأوكراني، ولكنه تذكير جماعي لنا لنفهم خلفيات، معلومة وليست خفية حتى، لسياسات وحروب في هذا العالم.. وربما لنرفع الحرج، نحن العرب والمسلمين، عن الكثير من قناعاتنا وتصوراتنا لهذا العالم.. قناعات وتصورات مختلفة ليست صحيحة جميعها بتمامها.. ولكن ليست خاطئة جميعها بتمامها أيضا.