رأى الجميع في العالم اليوم خلال الحرب الروسية الأوكرانية كيف يحضر الدين بقوة دلالية ورمزية بالغة في هذا الصراع العالمي بين دول ومجتمعات ظننا أنها تعلمنت وأخرجت الدين والتدين من الفعل السياسي، فإذا بالجيش الروسي يقوم بتعميد الطائرات والدبابات والصواريخ بالماء المقدس من قبل القساوسة الأرثودوكس في محفل كنسي قبل إلقاء القنابل في أوكرانيا، التي سارع رئيسها بالظهور مرتديا قميصا عليه صورة الصليب، في حين خطب الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب بأنه على الأمريكيين الصلاة والدعاء لأوكرانيا.. فوقفت الجماهير الحاضرة صمتا وإجلالا. وقد سبقهم إلى ذلك بابا الفاتكان .
هذه الحرب وتجليات الدين فيها عرّت حدود العلمنة في دول العالم الحر وعرت غباء ما كنا نناقشه هنا في بلادنا من أن الدولة لا يجب أن يكون لها دين مطلقا ... وأن فصل الدين عن السياسة يستوجب دولة لا علاقة لها بعقائد شعبها وانتمائه الديني والحضاري ..بينما في الحقيقة كانت الاسئلة التي طرحها الباحثون الأمريكيون في الفكر السياسي منذ التسعينات الى بداية الالفية في مسألة العلمانية وعلاقتها بالدين، تتمحور حول سؤال جوهري أربك الباحثين طويلا وهو « لماذا كانت الحكومات تفوز بمعاركها ضد الأصوليين وفي الوقت ذاته تخسر الحرب الأيديولوجية ضدهم" ؟
يهمنا أن ألفت النظر هنا إلى أن الدراسات الميدانية في ثلاث مجتمعات كبرى من سياقات حضارية ودينية مختلفة وهي مصر والهند والولايات المتحدة خلصت الى وجود تسائل آخر أكثر عمقا وهو : لماذا كانت التفسيرات المحافظة والتقليدية للدين شائعة وفعالة في هذه المجتمعات في مجابهة النخب العلمانية والحد من محاولاتهم علمنة الحياة بعد علمنة الدولة ؟
الاجابة الاولى التي خلصوا اليها في تجربة الهند مع الهندوسية والسيخية وفي تجربة مصر مع الإسلام وتجربة أمريكا مع المسيحية « ان الدين جزء مهم في تكوين الهويات الجماعية للشعوب وهو يمنح قاعدة مهمة للتضامن والحشد بما لا تقدر عليه أي فكرة أخرى " ...(انظر كتاب السياسة الدينية في الدول العلمانية للمفكر الأمريكي سكوت هيبارد )
لذلك نجد أن السياسات التحشيدية في العالم ترتكز أساسا على الدين بصفة كبيرة، فخبراء الاتصال وصناعة الرأي ومستشارو القيادات الكبرى في العالم واعون جدّا بهذا المعطى المهم في الترويج لأفكارهم وخوض مغامراتهم الكبرى فأي سياسي ناجح حتّى وإن لم يكن غير متدّين فعليه ان لا يتصادم مع الدين قدر ما يستطيع على الأقل خلال حملاته الدعائية…
ثمّ وقع توجيه هذه القوّة التحشيدية الرهيبة للدين في أكبر صراعات العالم لدى اكبر دولة في العالم، لقد رأينا أمريكا تواجه الاتحاد السوفياتي في الحرب الباردة بمقولة مدمرة (إمبراطورية الرب ستتصدى لإمبراطورية الشر) .....أو إمبراطورية الإيمان ستتصدى للإلحاد، فبعض الباحثين يجعل هذه أحد معاول هدم التجربة السوفياتية مثل الباحثة هيلين دانكوس في كتاب نهاية الإمبراطورية السوفياتية(مجد الأمم)…
ورأينا أيضا جورج بوش في غزو العراق يستدعي أكثر المقولات تطرفا في تاريخ صدام الحضارات في خطاب الحشد عشية الغزو عندما قال "إنها حرب صليبية جديدة " حتى علّق الصحفي النمساوي الماركسي ألان وودز متسائلا " من أين جاء بوش بهذه المقولة التي بدت له مغرية جدا ؟؟
ما الذي تغير في هذه الحرب الروسية الأكرانية/المسيحية المسيحية/الغربية الغربية؟ فالحقيقة لا شيء.. فأمريكا العلمانية زعيمة العالم الحر والمتمدن في سنة 2019 جابهت صورة وكالة الأنباء الإيرانية لقاسم سليماني وهو يُستقبل في الجنة من الإمام الحسين بصورة مقابلة لترامب وهو في حضن السيد المسيح…؟
وهي نفسها أمريكا التي يرفع رئيسها الإنجيل أمام الكنيسة…أنا أستغرب من استغراب البعض ..وهذا راجع في تقديري إلى اعتقادنا الموهوم أن العلمانية قطيعة كلية مع الدين وهذا بدوره راجع إلى عدة أسباب ذاتية وموضوعية كنت قد استعرضت بعضها في تحليل الخطاب الإسلامي المعاصر وهاجس العلمنة الغربية في كتابي "جذور الخوف بين الإسلام والغرب "..
الدين يحضر بقوة في السلم والحرب…الدين في السلم لا نراه، ولكنه في الحرب يعلوا صوته بقوة أصوات المدافع والصواريخ .