سبعون عاما أوهي تنقص قليلا مرّت على استقلال البلاد، وما يزال الجدل قائما بين النخب؟ هل كان استقلالا حقيقيّا أم صوريّا؟ بعيدا عن هذا الجدال الذي يحشد له كلّ فريق ألف حجّة وحجّة تدعم قوله، ولو جئته بالعفاريت الزرق لإقناعه بعكس ما يقول، ما رضى عن قوله حولا.
من حقّ التّونسي أن يسأل اليوم: ماذا تحقّق بعد قرابة السّبعين عاما من تاريخ خروج الإحتلال المباشر كما يوصّف البعض او من تاريخ الإستقلال كما يقول آخرون؟ ولماذا نجحت شعوب أخرى في النّهوض وتعثّرنا نحن والعرب عموما؟ بينما يتطوّر عندنا كلّ ماهو سلبي بصورة دراماتيكيّة، حتّى أصبح الظّفر بحفنات سميد إنجازا شبه وطني في بلاد كانت توصف بأنّها "مطمور روما"!! هذا ما تعلمناه في المدارس. بينما يحدث هذا في بلادنا، نجد شعوبا أخرى تزامن استقلالها مع استقلال تونس، نجحت في النّهوض فيما أخفقنا نحن ويلح علينا السّؤال: لماذا؟
سنغافورة او المدينة الدّولة استقلّت عن بريطانيا عام 1957 (بعد تونس بعام)، هي اليوم مركزا ماليّا مرموقا في العالم لكونها سلكت سياسة استثماريّة وتصنيعيّة عميقة،كان من نتائجها، ارتفاع معدّلات النّموّ ومؤشّرات جودة الحياة.
غير بعيد عنها، ماليزيا، استقلّت عام 1957، وهي اليوم من أبرز وأكبر الإقتصاديّات في العالم،باتت تعرف بمشاريعها العملاقة. يذكر أنّ حكّامها راهنوا منذ البدء على التّعليم.
جدير بالذّكر أيضا، أنّ الدّولتين تتميّزان بخليط من الثّقافات والأعراق والأديان(على خلافنا) ولم يكن ذلك التّعدّد الثّقافي عائقا لنهوض الدّولتين. لقد نجحت الدّولة في صبّ ذلك التّنوّع في سياق إبداعي فريد، ونجحت الدّولتان في وفرض نفسيهما قوّتين اقتصاديتين صاعدتين في عالم لا يحترم إلّا الأقوياء.
بالمحصّلة و بالمقارنة بين تونس وبين الدّولتين سالفتي الذّكر، يتّضح أنّ أسباب تخلّفنا، ليس مردّها، إلى فقر في الموارد الطّبيعيّة ولا في الثروات ، فهي موجودة، وليس الإستعمار وحده سبب ما نحن فيه، وهي سرديّة يركن إليها كسالى الفكر. وإنّما تعود أسباب تخلّفنا، وحالة التّدحرج إلى فقر في الفكر، حيث لم تسلك الدّولة منذ سبعين عاما إلى اليوم سياسة استثماريّة ناجعة وحركة تصنيعيّة قادرتين على تحديث الإقتصاد.
لقد انشغل الحكّام بتأبيد أنفسهم في الحكم، شعارهم(انا ومن بعدي الطّوفان.. ولا أريكم إلّا ما أرى...واتّبعوني أهدكم سبيل الرشاد"وما أوردونا غير سبيل الأزمات المتعاقبة!!وانشغلت النخب بعراكها الأيديلوجي والعامّة بلغو الكلام على حساب أسباب التّقدّم والحياة الكريمة.
صورة مجتمع يتدهور.
في مناخ كلّ ما فيه غير طبيعي،حيث بات الظّفر بقليل من السّكر والفرينة حدثا،يستحقّ الإشادة ، كيف للمجتمع أن يعيش حياة طبيعيّة؟! وكيف للحياة الطّبيعيّة أن تستقيم وسط المخاوف المتزايدة من فقدان ما هو طبيعي؟
وبينما تتكثّف الازمات كما لم يحدث من قبل، فإنّنا لا نسمع غير الحكي الذي لا يغيّر من مخاوف النّاس شيئا ولا من واقع مجتمع يتدهور يوما بعد يوم ولا نرى غير معالجة لمظاهر الأزمة وليس لأسبابها الحقيقيّة والعميقة.
لم نعد نسمع سوى لمقاربة سياسيّة واحدة (سلطة 25 جويلية وتابعيها من المفسرّين) وهي مقاربة سياسيّة أكثر منها اجتماعيّة واقتصاديّة، مع أنّ أمّ الأزمات، اجتماعيّة واقتصاديّة بالأساس.
تجدر الإشارة أنّ هذه المقاربة انفردت بالسّاحة كما انفردت بكلّ السّلطات،ولم يعد يعلو صوت على صوتها حتّى في الإعلام العمومي الذي رفع شعار الإستقلاليّة طيلة عشريّة كاملة، مستفيدا من مناخ الحريّات، ثمّ تخلّى عن شعاراته طوعا وعاد سيرته الأولى قبل الثّورة.
هذا الوضع المستجد، أتاح للتّابعين من المفسرّين أن يروّجو لأفكار، أخطر مافيها أنْها تتّجه إلى تخريب القيم الدّيمقراطيّة التي بشّرت بها ثورة أربعطاش جانفي وكرّستها في الواقع.
يمعن هؤلاء في تخريب حلم أجيال نذرت حياتها ووقتها لمستقبل ديمقراطي لتونس وبنفس الطّريقة الغوغائيّة، يتمّ تخريب عقول النّاس، عندما يسوّق هؤلاء الأتباع أنّ عشريّة الإنتقال الدّيمقراطي هي سبب مصائبنا.
هل يعني هذا أنّ عشريّة الإنتقال الدّيمقراطي كانت ناجحة؟ لا أحد يدّعي مثل هذا الكلام، لقد شهدت انقساما سياسيّا حادّا وفوضى عارمة وفشلا اجتماعيّا واقتصاديّا، كلّ ذلك حقيقة لا تخطئها العين،ولكنّها حجزت لتونس مقعدا بين الدّول الدّيمقراطيّة وللشّعب التّونسي مكانة بين الشّعوب المتحضّرة، تحسم نخبه خلافاتها واختلافاتها(تختلف وتأتلف) تحت سقوف مؤسّساتها الدّستوريّة.
تبقى نقطة هامّة، يجدر الإشارة إليها أنّ مرحلة التّأسيس للدّيمقراطيّة والتّمكين لها، واجهت قبل 25 جويلية وبعده تشويها متعمّدا وتضخيما لفشلها في سبيل مشاريع وأهداف سياسيّة "هولاميّة"،لا ندري شبيها لها في العالم حتّى تكون بين أيدي الباحثين تجربة واقعيّة قابلة للتّقييم.