أنا يساري متطرف لما يتعلق الأمر بالحرية والحقوق الإنسانية والعدالة الاجتماعية، ريفي يميني متحفظ ومحافظ لما يتعلق الأمر بالقيم الأخلاقية والسلوك في الفضاء العام، عائليا ثم عاما. رحل أبي عن هذا العالم في سن الثمانين دون أن يراني أدخن سيجارة بعد أربعين عاما من تعلمي التدخين، إنما دون أن أجرؤ على القول له أبدا كم كنت بحاجة إلى أنفاسه المباركة، حتى في ليالي الثلج الجليدية كانت أمي تترك لي الباب الخلفي مفتوحا إذا أحست بأنفاسي غير مرتبة بسبب الأرق بعد منتصف الليل لكي أدخن سرا، احتراما له،
كان ابني "أحمد الزيتون" الذي ربيته على كره التدخين هو الذي يخفي علبة سجائري في حضور أبي. أنا نشأت في مجتمع ريفي فيه كل الموبقات لكنه كان محكوما بقوانين اجتماعية للتعايش السليم منذ قرون للستر وتفادي الإنهاك بهذه المعارك الزائفة، عندما تسول لي نفسي أن أجترح أية حماقة، أفكر أصلا في سلام النظام الاجتماعي، كان أصدقائي من أهلي يقولون في الأعراس همسا: "ياخي جابوا الشراب للطبابلية؟" لأن عادة شرب الخمر متفشية عندنا، لكن من المستحيل أن ترى أحدا منا عليه علامات السكر،
واحدة من خالات أبي وأمي الكثيرات كانت تجاور في مدينة الكاف امرأة إيطالية يهودية تتضامن معها هي وأبناؤها في صيام رمضان وتطبخ معها أطباق الإفطار، "الطليانية" كان تعترف لنا قبل أذان المغرب أنها دخنت "سيجارة وحيدة، والله" في الصباح الباكر قبل أن نستيقظ، فقط لكي تصبح أخلاقها معنا أفضل، وأنا تعلمت منها كيف أعيش في حالة غثيان وغيبوبة حتى ما بعد الحادية عشر صباحا، لتفادي حاجات الصباح من الدخان والقهوة من أجل صيام جميل وصادق لبقية اليوم لكني، كم كنت أحب صيامها المزيف معنا بصفتها يهودية.
تاريخ تونس لم يخل أبدا منذ 14 قرنا من الخمور والفجور والشذوذ الجنسي وإفطار رمضان، لكن الناس اخترعوا طرقا لاحترام الفضاء العام، من يريد أن يشرب حتى يخرج من عقله ومن الإنسانية نفسها، هو حر، وحضرت في محاضر جماعة صوفية كان كل واحد فيهم يعتقد أنه بعير فيأكل ظلف الهندي تحت تأثير التخمر، وهو شيء يمكن الوصول إليه، حسب أقرب أصدقائي إليّ بدبوزة شراب من أرخص الأنواع حيث إذا لم يتوفر لك الجبن الفاخر واللحم المشوي، يمكن أن تأكل ظلف الهندي متوهما أنه لحم خراف مشوي خصوصا إن كنت عاشقا منكوبا وفقيرا، والخروج من العقل لا يحتاج كل أولئك البنادرية والفوضى والكذب السلوكي حول خرافات الصوفية التي لا أحد يستنكرها أيا كان عدد مريديها، وهي كلها مسائل شخصية لا تخلّ بالنظام العام،
أما من يرى أن تحوله من الأنوثة أو الرجولة إلى جنس آخر فهو حر، بشرط أن لا يخرج عاريا للناس وأن لا يطالبهم بتقبل خروج ممارسته الحميمة من المجال الخاص إلى الفضاء العام أو اعتبارها حقا عاما، من يريد أن يفطر رمضان، لا أحد سيمنعه بشرط أن لا يجعل ذلك شأنا عاما وأن لا يفرض على الناس إفطاره، ومما يقرأ في التاريخ القديم أن أحد خلفاء بني أمية المحافظين أرسل من دمشق إلى واليه على المدينة أن "أحص من عندك من المخنثين"، ولم تكن العربية تنقط الحروف وقتها، فاحتار الوالي إن كان الأمر "اخص" يعني الخصي أو "أحص" الإحصاء فاختار الخصي من باب الاحتياط، حتى من كان مخنثا يطمح أن يكون رجلا، أصبح مخصيا بالمرسوم الأميري، وهو ما يعيدنا إلى الفضاء العام: ليس من حق الدولة ذات القوانين البونابرتية أن تسأل الناس أو تحاسبهم عن انتماءاتهم الجنسية أو العقائدية طالما لم يخلوا بالنظام العام، أو أن تخضع أي مواطن من باب الاحتياط لمقياس الممارسة الجنسية، ولا أن تصدر قوانين مبنية على انتمائهم الجنسي،
لكن المدينة المنورة ومكة نفسها لم تخل من الشذوذ أو القوادين على الدعارة، وثمة حادثة شهيرة استشهد فيها أهل مكة على أحد مديري شبكات الدعارة في شعاب مكة بحمير الكراء التي حفظت الطريق، فقال المتهم وقتها إن قضاة العراق سيسخرون من قضاة مكة لأنهم يستشهدون حمير الكراء فبطلت الدعوى لبطلان الإجراءات والشهادة، لكن الجميع كان يعرف أن مكة ملوثة بالدعارة وقتها،
وثمة حادثة أخرى معروفة وهي أن أحد الوشاة قال لعمر بن الخطاب إن جماعة يجتمعون في بستان لشرب الخمر والفساد في المدينة، فداهمهم فجأة من سور البستان ليضمن "حالة التلبس"، قالوا له: نحن اقترفنا جريمة واحدة، شرب الخمر وأنت اقترفت ثلاث جرائم مذكورة في نص القرآن: الله حرم التجسس وأنت تجسست علينا، والله أمر أن تستأذنوا وتستأنسوا قبل الدخول وأنت هجمت علينا من فوق السور واقتحمت حرمتنا من غير استئذان، والله قال: لا تدخلوا حتى يؤذن لكم، وإن قيل لكم ارجعوا فارجعوا.
ولو طبقنا هذه القواعد الإجرائية على عمل البوليسية في تونس، لاسترحنا من أكثر من نصف قضايا انتهاك حقوق الإنسان والظلم والإيقافات العشوائية، أما في المسائل الأخلاقية أو غيرها، فرغم أن الدولة الوطنية اختارت منذ أول زمن بورقيبة التشريع من المبادئ الرومانية البونابرتية التي فصلت العلاقة بين القانون والأخلاق فإن أعوانها ما يزالون إلى اليوم يسألونك "وين كنت؟ شكون معاك؟ اش قاعد تعمل معاها لتوه؟" وإجراءات أخرى وصلت إلى حد إنفاق وقت ووسائل وأموال طائلة لإجبار الناس على إمضاء تعهد أخلاقي بعدم العودة إلى "الجلوس مع صديقته" في مكان ناء وهو آخر أدوار الدولة في ظل أهمية الأمن والمناخ الاقتصادي والنقل والصحة والتعليم،
وما دمنا ذكرنا فرنسا، فقد حضرت مرة في محكمة باريس الابتدائية محاكمة فتاتين عريتا صدريهما فقط من أجل البرونزاج على ضفاف نهر السين في التظاهرة الصيفية لرئيس البلدية ذي الأصل التونسي برتراند دي لانوي Paris plages عام 2002، ونالت كل واحدة منهما عقوبة بـ 400 أورو في بلد يعج بنوادي حرية الشواذ دون أي حد أخلاقي أو جسدي، وقتها وكانت المحاكمة فرصة لمرافعات قضائية بديعة حول العلاقة بين الحقوق الفردية والحقوق العامة وتعريف الفضاء العام أو الخاص وحتى التعريف الاجتماعي العلمي الدقيق للعري وما يمكن عرضه للعموم من الجسد (لم تكن فيه الترمة، لرجل أو امرأة)،
طبعا، هذه ثقافة قضائية اجتماعية لا علاقة لها بثقافة "أطلع في الباقة وجرّ على بوشوشة" والضرب والإيقاف والتعسف وانتظار حتى يجي وكيل الجمهورية متاع دولة الأخلاق الحميدة غير القانونية، والمحاضرات الأخلاقية للشرطة التي يفترض أنها آخر من يتحدث في الأخلاق، الأخلاق لا تمنعك مما تريد، لكنها تمنعك من فعل الحماقات أمام أبيك وأمك، ولكل الناس أب وأم وأبناء،