هل ستتخلى فرنسا في السنوات القادمة على نظام الاقتراع على الأفراد الذي تعتمده في الانتخابات التشريعية وتستبدله بنظام الاقتراع على القائمات مع اختيار مبدأ النسبية آو على الأقل تتجه نحو نظام مختلط يمزج مثل كثير من البلدان الأخرى بين النظامين أي الاقتراع على الأفراد والاقتراع على القائمات . السؤال يفرض نفسه بناء على تصريحات الفائزين الاثنين الأولين في الدور الأوّل من الانتخابات الرئاسية الفرنسية لسنة 2022 وهما أمانويل ماكرون ومارين لوبان.
كان ماكرون يوم الأربعاء 13 أفريل الجاري ضيف برنامج « الحقائق الأربعة » في قناة « فرنس 2 » حيث طرح فكرة إدراج النسبية في القانون الانتخابي و ردا على سؤال مقدمة البرنامج أجاب بأنه يمكن اعتمادها كليا و تجدر الإشارة إلى أن الدعوة إلى اعتماد النسبية في الانتخابات التشريعية تلقى رواجا عند كثير من السياسيين الفرنسيين سواء في الحكم او في المعارضة.
فقد كان فرنسوا بيرو رئيس حزب الحركة الديمقراطية مثلا طالب الرئيس ماكرون بوصفه حليفا له ومنذ بداية المدّة الرئاسة المنقضية باعتماد النسبية في القانون الانتخابي بحجة ان نظام الأغلبية على الأفراد لا يعكس في البرلمان حقيقة تنوع الطيف السياسي في المجتمع الفرنسي كما ان مارين لوبان هي أيضا تدعو منذ مدة إلى اعتماد نظام النسبية في التشريعية لانتخاب ثلثي النواب وتعتبرها الوسيلة الوحيدة التي تحقق تمثيلا صحيحا للحساسيات الموجودة في فرنسا وهو ما يعني الخروج من التصويت على الأفراد الى التصويت على القائمات وهو النظام الذي يمكن من اعتماد النسبية لانتخاب المجالس النيابية.
وتجدر الإشارة ايضا هنا إلى ان البرلمان الفرنسي يتكوّن من الجمعية الوطنية و من مجلس الشيوخ وينص الفصل 24 من الدستور الفرنسي على أن أعضاء الجمعية الوطنية ينتخبون بالاقتراع المباشر و لا يمكن ان يتجاوز عددهم 577 عضوا و ينص على ان أعضاء مجلس الشيوخ ينتخبون بالاقتراع غير المباشر و لا يمكن ان يتجاوز عددهم 348 عضوا.
وأحال الفصل 25 من الدستور للمشرّع مهمة تحديد مدّة كل من الجمعية الوطنية و مجلس الشيوخ و مهمة ضبط عدد أعضاء كل واحد منهما و ضبط شروط انتخاب هؤلاء الأعضاء.
و عملا بأحكام الدستور و القانون الانتخابي يبلغ أعضاء الجمعية الوطنية الفرنسية 577 عضوا ينتخبون بنظام الاقتراع المباشر على الأفراد في دورتين والدوائر الانتخابية ذات العضو الواحد .
ويتم انتخاب النواب وفقاً لنظام التصويت بالأغلبية في جولتين. ولكي يصبح المرشح نائباً يجب عليه الحصول على ما يلي:
• يحصل في الجولة الأولى على الأغلبية المطلقة للأصوات وعلى عدد مساو لربع عدد الناخبين المسجلين في القوائم الانتخابية على الاقل.
– لخوض الجولة الثانية يجب على المرشح أن يكون حاصلاً على عدد من الأصوات تصل نسبته إلى 12.5% على أقل تقدير من عدد الناخبين المسجلين وفي الجولة الثانية تكفي الأغلبية النسبية للفوز وفي حال تعادل المرشحين يفوز المرشح الأكبر سناً.
يتم التصويت في كل دائرة انتخابية على حدة حيث أن كل دائرة من هذه الدوائر تمثل مقعداً في البرلمان.
فرنسا تطالب بمزيد من الديمقراطية
ماذا يعني تفكير أهم الوجوه السياسية الفرنسية في التخلي عن نظام التصويت بالأغلبية على الأفراد والذهاب إلى نظام النسبية الذي لا يكون إلا على القائمات؟
هل توصل السياسيون الفرنسيون البارزون اليوم إلى قناعة بان التصويت على الأفراد يضعف الحياة السياسية وانه لا يسمح بالوصول الى المجالس النيابية المنتخبة إلاّ للشخصيات الكبرى المنتمية إلى الأحزاب المهيمنة و انه يلغي بذلك وجود كثير من الأحزاب الصغيرة في البرلمان سواء كان بغرفة أو بغرفتين ؟
مهما يكن من أمر ذلك فان النظم الانتخابية هي اختيارات سياسية ذات أهمية قصوى في الحياة السياسية وخاصة في الديمقراطيات الناشئة.
يقول أستاذ القانون زهير المظفر أنّ الأخصائيين في القانون الدستوري و العلوم السياسية يجمعون على ان التقنيات الانتخابية تؤثر مباشرة على نتائج الانتخابات فاختيار نظام اقتراع معين يؤثر على الخارطة السياسية بوجه عام وعلى الأحزاب السياسية بوجه خاص و لاحظ بأنه لا غرابة أن تبادر بعض الحكومات بمجرد حصولها على الأغلبية بتطويع النظام الانتخابي لصالحها إدراكا منها لأهمية التقنيات الانتخابية في تحديد النتائج النهائية [1].
وقد ارتكزت فلسفة القانون الانتخابي في الفترة الأولى من الاستقلال بحسب زهير المظفر على تحقيق انسجام الهيئات المنتخبة فكانت حكومة الاستقلال في حاجة إلى هيئات منتخبة منسجمة التركيبة تدعم عملها و تساعدها على انجاز برامجها من اجل دعم الوحدة القومية و القضاء على مظاهر التعصب و مساوئ العروشية و القبلية و الجهوية لذلك استبعد الاقتراع على الأفراد لفائدة نظام القائمة الانتخابية حتى تأخذ الانتخابات صبغة وطنية. [2]
وبقطع النظر عن المبررات التي يقدمها المظفر لاستبعاد نظام الاقتراع على الأفراد ومنطق الانسجام و « الوحدة القومية » الذي قام عليه نظام الاستبداد في عهد بورقيبة فان التخوف من مساوئ العروشية والقبلية يظل قائما في مجتمع فقير لم يتخلص بعد من الامية و من مخلفات النظام القبلي ورديفه الجهوي.
ومهما يكن من أمر فإن أي نظام من الأنظمة الانتخابية سواء كان على الأفراد أو على القائمات وسواء كان باعتماد مبدأ الأغلبية أو النسبية بتنوعاتها ليس كله شرا مطلقا ولا كله خيرا مطلقا . إن أي نظام من هذه الأنظمة يتضمن ايجابيات وسلبيات وهو بذلك يجب أن يكون محل نقاش مجتمعي في كل بلد بالنظر إلى خصائصه الديمغرافية، والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية.
ولكل ذلك فان هذه الأنظمة الانتخابية تدخل كلها رئاسية وتشريعية في مجال الدستور والقانون عموما بالمفهوم الدقيق لكلمة قانون أي أنها عمل تشريعي تختص به المجالس النيابية الممثلة للشعب. هذه المجالس هي التي تختار النظام الانتخابي الذي تراه أنسب من خلال حوار برلماني عميق، ولكن لا يستثني دور المجتمع المدني في النقاش والجدل العمومي .
ولا شك أن لجوء السلطة السياسية إلى تغيير النظام الانتخابي قبل فترة وجيزة من الانتخاب وقيامها بهذا التغيير بشكل منفرد دون اللجوء إلى المجلس التشريعي المخول لمناقشة هذا التغيير واعتماده او رفضه يهددان أي نظام سياسي ديمقراطي أو يطمح إلى الديمقراطية ويجعلان منه ضحية هيمنة الفرد المستبد وطريقا لاستدامة هذه الهيمنة خارج أي مبدأ من مبادئ الفكر الدستوري الديمقراطي.
فهل ستتبنى تونس بناء على الاستشارة الالكترونية التي جرت في المدة الأخيرة نظام الاقتراع على الأفراد رغم مساوئه التي بدأت تتكشف لأكثر البلدان ديمقراطية مثل فرنسا ؟ وهل سيعتمد هذا النظام خارج أي حوار مجتمعي عميق ودون التداول بشأنه من قبل مجلس تشريعي باعتبار هذا النظام من مشمولات القانون كما ينص على ذلك الدستور .ذاك ما ستتكشف عنه الأيام القادمة في ظل هذا الوضع الذي تعيشه تونس والذي يهدد كامل التجربة الديمقراطية التي بنيت على علاتها في العشرية الماضية .
الهوامش
[1] انظر زهير المظفر « النظام الانتخابي في تونس » . منشورات المطبعة الرسمية للجمهورية التونسية 2005 الصفحة 3.
[2] المرجع السابق ص4