مررنا منذ سنة 2011 بثلاث محطات انتخابية كانت ناجحة بشهادة الجميع من الداخل والخارج. لم يكن ليتحقق ذلك لولا عاملين مهمين. يتمثل العامل الأول في مهنيّة و نزاهة واستقلالية هيئة الإنتخابات و يتمثل العامل الثاني في التعامل الإيجابي سواءً من المتنافسين فيها أو المتدخلين فيها من السلطة التنفيذية على غرار وزارتي الداخلية والدفاع على وجه الخصوص. هذا بالإضافة لدور الإعلام المحلي أو الدولي في تغطيته لتلك المحطات المشعة في تاريخ تونس.
رغم الإعتراف المحلي والدولي بشفافية العملية الانتخابية ونزاهتها فإنَّ شيئًا ما لم يكن على ما يرام فنتائجها لم تشفي لا غليل الثائرين في 2011 من خلال بُروز أغلبية جديدة تقود البلاد ولم تسمح بعودة التجمعيين للتصدر في الحكم واسترجاع مكانتهم حيث ظلت البلاد تراوح مكانها سياسيًا. الآخر ذلك إلى طبيعة نظام الحكم و أرجع البعض الآخر ذلك إلى القانون الإنتخابي إلى أن حلت الكارثة يوم 25 جويلية و أصبح الحلُّ في حلِّ كلّ المؤسسات المنتخبة. فيا ترى هل يعود المشكل إلى نظام الحكم أو قانون الإنتخابات وفقط أم أنّ معضلتنا أعمق من ذلك بكثير ؟
الأسباب
تتعد و تختلف الأسباب و لعلّ أهمّها ما يلي:
أولا: ساهم القانون الإنتخابي الحالي في إفراز مشهد برلماني متنوع يتيح الفرصة لطيف سياسي كبير المشاركة في عملية الاصلاح والبناء، ولكن جزءٌ كبير لم يحسن استغلال الموقف إيجابيًّا فصار التنوع عامل تشتت و طغت الصراعات الايديولوجية.
ثانيًا: انعدام الثوابت والبرامج: لعبت الأطراف المتنافسة على مشاعر الناس دون تقديم أطروحات و مشاريع للبناء و كانت في كلّ مناسبة تلوح بشعارات من قبيل "أتحالف مع الشيطان و لا أتحالف مع النهضة " و "النداء و النهضة خطّان متوازيان" و "الحلّ في حلّ التجمع الدستوري الديموقراطي" و ما إن أتت مخرجات الإنتخابات دون إفراز أغلبية تستطيع الحكم بمفردها عدل الجميع عن شعاراتهم و مواقفهم فالتقى الخطّان المتوازيان واستنجد من دعا إلى حلّ التجمع برموزه و جعلهم من المقربين.
ثالثا: الإنفلات النقابي : لم تكتفي المنظمات النقابية وعلى رأسها إتحاد الشغل بدورها في الدفاع عن مشاغل و مصالح العملة بل تجاوزت ذلك لتتدخل في الشأن السياسي ولئن حُسب لها ذلك في 2013 من خلال الحوار الوطني فإنّها أساءت لنفسها من حيث لا تدري بعد ذلك من خلال كثرة الإضرابات و تعطيل الإنتاج بل وحتى الدخول في خصومات و مشاحنات مع أطراف حزبية و تخلّت عن دورها الأساسي الذي من أجله وجدت.
التداعيات
إنّ اختزال عملية الإنتقال الديمقراطي في الجانب السياسي دون غيره و عدم الإكتراث بالمسائل الإجتماعية والإقتصادية الملتصقتين بالواقع المعيشي للمواطنين كانت لهما تداعيات كبيرة على العملية الإنتخابية برمتها و أثرت على قناعة المواطنين في امكانية التغيير عبر مخرجات الإنتخابات و ما تفرزه في كلّ محطة دون تراجعهم عن هذا المكسب أو تشكيكهم في الإنتخابات ذاتها و يمكن التدليل على ذلك من خلال المعطيات التالية كما يلي:
1. تراجع عدد الناخبين في الإنتخابات التشريعية خلال 2014 و 2019. قد يعود ذلك التراجع للأسباب الآنف ذكرها و قد يكون لسبب بسيط يتمثل في غياب البرامج : لماذا أصوت لزيد ضد عمر و بعد الإنتخابات يتحالف زيد مع عمر؟!
لسائل أن يتساءل لماذا هذا التراجع لم يشمل الإنتخابات الرئاسية التي حافظت على نفس عدد المصوتين؟
تلك المفارقة ليست بالغريبة، بل يمكن تفسيرها من خلال سببين اثنين : الأول تاريخي حيث أنّ النظام السياسي الذي ساد البلاد لمدة خمسين سنة كان رئاسي وبالتالي تكتسي الإنتخابات الرئاسية أهمية أكبر في (لا)وعي الناخبين عموما. أما السبب الثاني فيمكن فهمه كعقاب أو غضب تجاه الأحزاب وأداءها في البرلمان أو لربما لقلة الوعي لدى الناس بأهمية التشريعات في البناء الديمقراطي حيث تغلب على الطبيعة البشرية نزعة واندفاع نحو التنفيذ و عجلة للفعل قبل التخطيط والتفكير الذي هو من مهام المشرّع.
2. من جهة أخرى إذا ضربنا مثال على المشاركة الحزبية من خلال حزب حركة النهضة الذي شارك بانتظام في كل المحطات الإنتخابية يمكن ملاحظة تراجع عدد الأصوات لفائدتها منذ 2011 (1 501 320)، 2014 (947 034) و 2019(561 132) وهو ما يعني أنّ الناخب، بغض النظر عن قناعاته، اهتدى إلى طريقة ديمقراطية تمكنه من معاقبة الأحزاب من خلال عدم منحه إياهم صوته.
3. النقطة الثالثة تهم الإنتخابات الرئاسية بالأساس. لئن لم يتراجع عدد الناخبين فإنّ المضمون قد تغيّر كثيرا حيث خيّر بعض الناخبين التصويت لشخص من خارج الأحزاب ربما ذلك لم يكن قناعةً لا بالشخص و لا بمشروعه و لكن نتيجةَ رغبةٍ جامحة في عقاب الذين يتصدرون المشهد السياسي و لربما كانت مغامرة منهم.
تواصل المسار الديمقراطي
في كلّ الحالات تواصل المسار الديمقراطي ووجد الناخب وسيلة ضغط (الغياب، العقاب أو المغامرة/المقامرة) على الفاعلين في الساحة السياسية دون التخلي عن حقه في التعبير عن رأيه من خلال صندوق الإنتخابات و تبين لنا أنّ نتائج الصندوق قد تأتي بفاعلين جدد على غرار إئتلاف الكرامة و قد تجازي أحزاب على غرار التيار الديمقراطي و قد تعصف بأحزاب على غرار نداء تونس أو المؤتمر من أجل الجمهورية سابقًا.
الإنقلاب على إرادة الناخبين
سادت التحالفات بعد كلّ محطة انتخابية و التي كان أكبر همها بقاء الأطراف المتحالفة في الحكم مؤجلةً بذلك الحسم في القضايا الكبرى بعيدا عن استكمال البناء الدستوري ناهيك عن التأسيس لمشترك مجتمعي لبناء مستقبل البلاد. لم تراعي تلك التحالفات إرادة الناخبين و لم تحترم أصواتهم ولم تهتم بمصالح المواطنين. تحالفات اعتبرتها تلك الأحزاب بمثابة الإكراهات السياسية و برَّرتها بدعوى خلق توازنات جديدة من أجل المحافظة على المكتسبات و مواصلة الإنتقال الديمقراطي وهي في الحقيقة ليست إلاّ تنكرًا لصوت الناخب و انقلابًا أصغر على إرادته. طبعًا، سوء التقدير والثقة المفرطة وغياب الرؤية و تفاقم الأوضاع السياسية والإقتصادية والإجتماعية كانت كلّها عوامل تنذر بحدوث أمر ما و لو بعد حين.
أمَّا بعد 25 جويلية، فلم يعد الأمر متعلقا بتجاهل وعدم احترام أصوات الناخبين فقط، بل صار الأمر يتعلق بجدوى الإنتخابات ذاتها فما الفائدة من كلّ المصاريف والإستعدادات والتحضيرات و من مشقة للناخبين والسياسيين على حد السواء عندما يصبح إغلاق مؤسسة منتخبة بدبابة عسكرية أمرًا بسيطًا يحدث بين عشية وضحاها و بتلك السهولة؟! و مالذي ننتظره عندما يحلُّ رئيس الجمهورية هيئة الإنتخابات التي من المفترض انها مستقلة عن السلطة التنفيذية وينشئ مكانها هيئة يسمِّي هو جميع أعضائها و يكون هو نفسه طرفًا في المنافسة على الحكم؟!
هل هناك حلّ؟
مهما حصل ومهما تعقدت المشاكل وتشعبت القضايا فإنّ الحلول تبقى واردة رغم كلفتها التي تزيد و تتفاقم كلّما تأخر ثواب القائمين على السلطة الآن إلى رشدهم.
لعلّ أهم نقطة تتمثل في الإستفاقة من الغيبوبة و حالة اللاوعي الحاصلتين و التفكير بمنطق سليم قبل الخوض في الحلول المطروحة. بعد ذلك، لبدّ من العودة إلى صاحب السيادة (نظريا) الذي هو الشعب ليقول كلمته الفصل.
لكنَّ السؤال المطروح هو: هل هذا لا يزال ممكنا؟
الإجابة: نعم شريطة احترام الميثاق الذي يربط بين الحاكم والشعب مع التحييد الفعلي للقوات الحاملة للسلاح عن الشأن السياسي فأنا أفضِّلُ أن يتنكر السياسي لصوتي فأحرمه منه المرّة القادمة على أن يصادر حقّي في الإختيار و أُجبر على ترك الشأن السياسي برمته لغيري لأنّ الإنتخابات صارت كما نقول بلهجتنا العامية مصروف زايد بعد أن كانت النقطة المضيئة بامتياز منذ اندلاع الثورة.