الأخطاء دروس في الحكمة. لا يمكن أن تغير الماضي … ولكن المستقبل قد يكون لك ... لن احكي لكم عن مظاهرة يوم أمس 15 ماي فقد حضرها من حضرها منكم وقد شاهد فعاليتها من شاهدها في البث المباشر لها . لن أقدم كما فعلت في المظاهرات السابقة أي إحصاء لعددها فهي في كل الحالات اكبر بكثير ، بكثير من مظاهرة 8 ماي.
مرة أخرى تؤكد الجماهير أن شارع الثورة تحرر تماما من زمن القهر…
شارع الثورة كما نسميه اليوم يتعلق الأمر به ومعه بسلطة المكان المنتزع من زمن الاستبداد والذي أراد استبداد آخر أن يسترجعه بتعلاّت لا تختلف كثيرا عن تلك التي قيلت لنا حين رحّل بائعو الورد من هناك بدعوى أنهم يلوثون البيئة.
يقول لنا الحكام الجدد الذين صعدوا من غياهب المجهول والغفلة إلى الوزارة و إلى المكاتب الفخمة أن الجماهير تلوث جمال الشارع وهدوءه ونشاطه الثقافي فأعلنوا انه سيعود الى "روحه الثقافية " غير أنهم نسوا ثرثرتهم حول الثقافة المزعومة ووقفوا يوم 8 ماي مع غياب العقل وانتصارا للشعبوية الرثة . وكانوا في ذلك مع فلول من البلطجية والصعاليك الذين نسوا ما جاؤوا من اجله فعلق بعضهم في رقاب بعض في مشاهد مخزية هي دليل أخر على ما تردت فيه البلاد من درك التفاهة المدعومة بالخطاب الرسمي.
لمن يعتقد انه باق طالما حمى الشارع نقول: انتم اضعف من أن تعيدوا هذا الشارع إلى زمن بن علي وان كنتم ورثتم عن الهارب شراسة بوليسه... فقد أسقطه الشارع يوما ولا أظن أن أحدا قادر بعد ذلك أن يمتلك المكان وحده حماية لنفسه من تقاسمه مع من يعارضون سلطته الضعيفة في زمن غاب فيه العقل والحوار حتى غدت تونس مرتعا للعبث المسنود بكل اشكال الكراهية المنذرة بالاحتراب الاهلي وسوء المصير .
نجيب الشابي أيقونة المقاومة المجتمعية
شارع بورقيبة ، شارع الثورة لا يملكه بعد الثورة أحد غير الثورة المتجددة المفتوحة على كل الممكنات ..وممكناتها اليوم لا حصر لها و ربما يكون من أكثرها خصبا أنها استطاعت في مقاومة الانقلاب أن تصنع قائدا قديما جديدا : نجيب الشابي .
حسب أكثرنا أن صفحته قد طويت وان الثورة قد استنزفته فلم يعد غير ذكرى حزينة..غير ان الرجل يولد متجددا ميلادا حاملا لألف دلالة ومعنى.. لست من هواة الهجيوغرافيا ( سيرة القديسين ) و محبي ذخائر الاولياء ومن انصار زعامة الزعماء ولا من عشاق ابطال الحكايا الشعبية والأساطير القديمة ولكننا أحيانا نحتاج الى من يحمل المشعل ومن يقود الناس في هذا الظرف الذي اختلطت عليهم فيه السبل وتشعبت المسالك.
فهم جوهر بن مبارك ذلك وهو الذي تزعم حركة "مواطنون ضد الانقلاب " على مدى أشهر فأشاد بالشابي واعتبره قائدا جديدا للحركة وهي التي صارت تحمل اسم الخلاص الوطني في مواجهة لغة التخوين والكراهية اليومية .
فهم بن مبارك ان الحركة تفتقر إلى قائد كبير وان الجماهير محتاجة إلى القيادة الملهمة الأخاذة لا سيما وأن مظاهرات شارع الثورة عمل جماهيري أكثر من كونه نخبويا فنخبتنا في أكثرها تتفرج إن لم تكن تناصر الانقلاب سرا وعلانية ..بل ينشغل البعض الأخر من مثقفينا بتذكيرنا بماضي نجيب الشابي وأخطائه لا لشيء إلا لأنهم استشعروا كل الخطر من بروزه ففعلوا وسيفعلون كل ما يستطيعون لتدميره . كتبت شخصيا في الشابي واختلفت معه كثيرا . و لكن جميع أخطائه على كثرتها لا تبرر مهاجمته بذلك الشكل المخزي أحيانا و على طريقة " رجل البوصاع " الشهير و معجمه القبيح السفيه الرخيص الذي اخجل من ذكر ألفاظه الجنسية..
ما أظن أن حقيقة الرجل تشغلهم كثيرا بقدر ما يشغلهم الدفاع عن العبث الذي نعيشه فهو أفضل عندهم ألف مرة من انتصار من يعدونهم خصوما لهم ، تستباح لهزمهم كل المفاسد وتصير حلالا كل الخطايا والشرور من تخريب مؤسسات الدولة ومن اغتصاب للحريات وتفقير للشعب .
لهذا كان يجب على المقاومة أن تبدع قيادة ذات تأثير، وكان لزاما على أفكار المقاومة أن تتجسد في رجل يمثلها وتصير واقعاً بوجوده .
ومن أفضل لذلك من نجيب الشابي وقد جسد على مدى أربعين سنة صورة المعارض الذي قد تختلف معه، ولكن لا تستطيع إزاءه غير أن تحيي صموده في وجه كل أنواع الاستبداد من بورقيبة إلى بن علي الى الاسلاميين ايام سطوتهم ؟ . ولكن رغم موقفه المعروف من النهضة والذي وثقه في كتابه الأخير وهو مذكراته السياسية على مدى عقود فان الرجل لم يضيع البوصلة ولم تقده معارضته للنهضة الى الوقوف مع تخريب الدولة ومؤسساتها .
لقد فهمت حركة "مواطنون ضد الانقلاب" أنها يجب أن تضع في الاعتبار أن الجماهير سريعة الملل فهي تفضل الاستقرار و تتأثر بالقصف الإعلامي، بل قد تتحول تحت الضغط الإعلامي إلى خصم، يجب كسبه.
وهل هناك اليوم أفضل لكسب الناس من نجيب الشابي بنضاله التاريخي الذي لا يضاهيه أي نضال آخر في المعارضة .. بهدوئه ورجاحة عقله ؟ إنه يجسد الاستعداد الدائم لدفع الثمن والوقوف بصرامة ضد كل انواع المضايقات من قبل النظام، وكذلك الأحكام الظالمة التي قد تصدر من قضاة النظام كما بين ذلك الشابي في خطابه في مظاهرة أمس ،
وقد يكون الأمر أكبر من ذلك، كان الهدف أيضا الحفاظ على المقاومين أولا ثم إقناع عدد اكبر .بواسطة التأكيد على المصالحة المجتمعية، وتقبل الآخر، والالتقاء على نقاط التوافق، وتنحية الخلافات بكل أشكالها. ومنها الخلاف مع الإسلاميين و الاجتماع على هدف واحد هو تخليص الوطن من الانقلاب الجاثم عليه و الكاتم لأنفاسه منذ عشرة أشهر .
في الأخير أقول لنجيب الشابي أن الأخطاء دروس في الحكمة…لا يمكن أن تغير الماضي … ولكن المستقبل قد يكون لك.