بصراحة تردّدت قبل أن أعلّق على الزيادة في سعر الفائدة من قِبل البنك المركزي للشعور بإعادة توالد نفس ردود الافعال لنفس السياسة المنتظرة. أو ربّما لعدم الاقتناع من فائدة وراء ذلك. ذلك أنّ البديهيات المنهجيّة في الامر تقتضي،
- أن تُحدَّد أسبابُ التضخّم “احصائّيا” - وليس بالاقتصار على مرجعيات نظرية عامّة، لم تُحسمْ آلياتُها في الواقع وليست محلّ اجماع، خاصّةً مع صعود “النظرية النقدية الحديثة" (MMT).
- أن يتمّ تحديد أسباب التضخّم ووزن كلّ واحد منها احصائيًّا:
(أ) زيادة الطلب على العملة المحلّية (للطلب الداخلي أو للصّرف الاجنبي) ومرونتها بالنسبة الى نسبة الفائدة،
(ب) تراجع العرض من سلع وخدمات تُجاه الطلب، ومنه توسّع العجزيْن الداخلي والخارجي. (ملاحظة: وجب تحديد اتجاه التأثير بين العجز الداخلي والعجز الخارجي احصائيّا حتى نعلم أكثر حول جدوى الرفع في نسبة الفائدة) ،
(ج) ارتفاع مُعمّم لتكلفة الانتاج،
(د) ارتفاع قوّة الاحتكار في أهم الاسواق ومسالك التوزيع (سواءً باستراتيجية التفاهم بين قلّة من المُنتجين أو بالتموقع المحمي من قِبل السلطة (الريع)، بحيث تنتشر ألية ارتفاع الاسعار حول أغلب القطاعات حسب المرونة القطاعية البينيّة)،
(ه) انعدام المعلومات لدى المتعاملين الاقتصاديين وغياب اتّصال نافذ من السلطات النقدية والمالية، بحيث يُأثّر تشكيلُهم لتقديراتهم المستقبلية على الاسعار الجارية،
(و) عدم الاستقرار في أهمّ المتغيّرات الاقتصادية والمالية الذي يدفع بالمتعاملين الاقتصادين الى رسم خطط استهلاكية (تتعلّق بالطلب) ذات التداعيات التضخّمية.
واذا تمّ تحديد الوزن النسبي “احصائيّا" لكل عامل من العوامل (أ-و) أعلاه، يمكن الحديث عن جدوى الرفع في نسبة الفائدة من عدمه.
- يبدو أنّ “الهدف المُعلن" من البنك المركزي جرّاء الرفع في نسبة الفائدة هو السيطرة على التضخّم مهما كان نوعُها. وهذا يبقى محلّ جدل حول جدوى هذه السياسة في تحقيق هدفها “المُعلن”، طالما عوامل التضخّم لم يتمّ احتسابُ وزن كلّ منها (على الاقل فيما نُشر رسميّا).
ولكن المؤكّد هو انّ الطلب على العُملة الأجنبية سيتقلّص في سوق الصرف الداخلية باعتبار ارتفاع مردودية العُملة الداخلية (الدينار) جرّاء ارتفاع نسبة الفائدة ممّا يساعد على الحفاظ على المخزون من العملة الأجنبية.ولكن، ألا يكون ذلك سببا في المس من صدقية السياسة النقدية وبالتالي في آدائها حيث الهدفُ المُعلن حاد عن الهدف المرسوم فعليّا؟
سؤال متعدد:
- بقطع النظر عن العوامل (أ-و) أعلاه، في اطار ركود اقتصادي-تضخّمي، هل من جدوى وراء سياسة نقدية مقيّدة؟
صحيح، تُستعملُ حاليا هذه السياسة المُقيّدة - بتنسيق مؤسّسي بين السلطتيْن النقدية والمالية- من طرف الفدرالي الامريكي وجل الدول التي اعتمدت التسهيل الكمّي (QE) أثناء أزمة الكورونا والتي تتحمّل حاليا تبعاتِ ذلك التضخّمية المُنتظرة منذ شهر نوفمبر الماضي (انظر تصريحات جيروم بأول وجانات يالّن وكذلك كريستينا لاغارد). فهل الامر كذلك في تونس؟ هل كانت السياسة النقدية والمالية استباقيّتيْن؟
- اذا كانت الحرب في أوكرانيا قد أفضت الى ارتفاع أسعار المواد الاساسية والطاقية، حيث قامت العديد من الدول النامية بإرساء “خليّة أزمة” قامت بحجز المواد لاستيرادها قبل نشوء الحرب، ونوّعت من شراكاتها الخارجية، واعادت النظر في دعم بعض المواد الاساسية حتى لا تنفجر أسعارها، فهل كان الامر كذلك في تونس التي أعلنت بكل ثقة في النفس على مبادرة رفع الدعم .
-بعيدًا عن كل ذلك، هل تمّ تقييم هذه السياسة في الماضي فيما يتعلّق بالسيطرة على ارتفاع الاسعار؟ لا يجب أن تكون الإجابة مُصرّفة شرطيّا (Au Conditionnel)، أي "لو لم نقم بها، لكان التضخّم أعلى"، لأنه لا يستقيم الاّ في العقائد السّماوية.
- بقطع النظر عن كلّ ما سبق، فلنفرض جدلا أنّ الرفع في نسبة الفائدة سيُحقّق السيطرة على التضخّم، بل سيُخفّضها، ماذا نعلم عن ديناميكية سوق الشغل في تونس؟ هل لدينا فيه "حركية ونسبة دوران عالية" مثل السوق الامريكية التي أفرزت في الأشهر الماضية نسبة بطالة سلبية في بعض القطاعات؟ لا، بطبيعة الحال.... لكن المؤكّد هو أنّ تكلفة العمل الحقيقية سترتفع وتظلّ البطالة الهيكلية عالية في ظلّ الركود الاقتصادي كما أشار الي ذلك الاقتصادي المرموق “روغوف” في مقاله-المَرجَع المتعلّق "بالسياسات النقدية المحافظة.