الثائرون ضد انقلاب قيس سعيد في تونس متفائلون جدا إلى درجة الإيهام بأنهم سيمسكون غدا برقبته ومحاسبته. وهم لفرط تفاؤلهم يعتبرون زيارة الرئيس الجزائري إلى تركيا وعقده لاتفاقيات كثيرة ماء في طاحونة انتصارهم، ويروجون الآن (الثلاثاء، 17 أيار/ مايو) أن طرد باشاغا من طرابلس حدث مؤثر في الداخل التونسي، ناسفين كل اختلاف محتمل (أو خصوصية) بين تجارب الدول الثلاث وطبيعة أنظمتها والظروف الخاصة التي يمر بها كل بلد.
بودي أن أقاسمهم كل هذا الاستبشار لكني أفضل التوقف عند أمر تونسي خاص، وهو أن معارضي الانقلاب -وهم طرائق قددا- يطوفون بكثير من الخبث السياسي حول نفس الأخطاء التي أدت إلى الانقلاب، ليعيدوا خداع أنفسهم بوهم تقدم لا ينتج إلا دورة جديدة من التخلف الديمقراطي. ولهذا الخبث أو الغباء وجهان: التجميع السياسي بالكم على حساب النوع، والتسرب دخل الكم دون الارتقاء النوعي.
وهْم التجميع الكمي
الذين قفزوا منذ البداية إلى توليف اسم سياسي ميداني (مواطنون ضد الانقلاب) فتحوا ثغرة حقيقية في لحظة الارتباك التي أعقبت الانقلاب، فسار خلفهم عدد من الناس، فتحولت حركة أفراد إلى مبادرة ديمقراطية بهدف تكبير "الكدس" كما يقال في تونس، أي توسيع عدد المنخرطين في مقاومة الانقلاب، وكانت الدعوات مفتوحة للانخراط في الشارع دون حسابات مسبقة. بعد تسعة شهور من الانقلاب تبين للناس أمران: أن عمق المبادرة ظل دوما حزب النهضة وجمهوره المنضبط يزيد وينقص أحيانا تحت تأثير الطقس، لكن لم يتشكل تيار شعبي حقيقي وواسع ومتنوع سياسيا حول المبادرة (هذا دون غمط حق كثير من نشطاء صادقين وغير مخترقين).
والثاني أن الأزمة الاجتماعية والاقتصادية (وأهم أسبابها الحصار المالي الخارجي للانقلاب) قد بدأت تلقي بظلالها على مستقبل الانقلاب، كما أن مشروع الرئيس السياسي ليس شاغلا حقيقيا لدى الشارع، وهذا ما دفع حزاما كبيرا من حول الانقلاب إلى الابتعاد عنه ومن ثم البحث عن مقعد ضمن المعارضة، وهو ما خلق موجة تفاؤل تنفخ في احتمال التقاء كل المعارضين في جبهة واحدة. وزاد هذا في نهم التجمعيين إلى العدد دون تمحيص، وأوحى إلى الهاربين من حول الانقلاب بأنهم سيجدون مكانهم الطبيعي في المستقبل بصفتهم أيضا ديمقراطيين أبرياء معارضين للانقلاب.
محاولة العودة الطاهرة
ظنت المبادرة الديمقراطية أن انتداب السيد نجيب الشابي إلى صفها وإعادة تدويره كرجل إجماع وطني ذي تاريخ ديمقراطي قد سهل لها التجميع، وتم تسويق صورة أو خلق انطباع بأن الشارع الثائر أكثر من جمهور النهضة وحزامها التقليدي (ائتلاف الكرامة وحراك المرزوقي).
وفتح السيد نجيب قنوات حوار مع أسماء شخصيات سياسية ومسميات حزبية، وكثرت الحركة بين مكتبه ومكاتب الأحزاب والسفارات. هذه الحركة الدؤوبة ولدت الوهم الثاني بأن من ناصروا الانقلاب وتعرضوا إلى الطرد من حماه قد وجدوا ثغرة العودة والنجاة، فكثرت إعلانات المعارضة لكنها استصحبت شروطها الخاصة.
عند النظر في البيانات (التي صدرت كلوائح شروط مسبقة) نجد أن هذه الأسماء لم تغادر مربعات فعلها السياسي السابقة على الانقلاب، وهي أن تحكم دون ثقل جماهيري حقيقي. فعندما يتكلم السيد نجيب عن حوار وطني ينظم نهاية الانقلاب ويرتب ما بعده، يأتيه الجواب على شكل شرط واحد كبير: ما بعد الانقلاب يكون بلا حزب النهضة أو بأقل القليل منه في صورة التفضل بقبول العمل معه مستقبلا. وهو ما يعيدنا بلا مواربة إلى مربع ما قبل الانقلاب، ومن هنا تبدأ إعادة إنتاج الأزمة التي خلقت الانقلاب.
طاولة حوار مغشوش في الأفق
عندما ينصب السيد نجيب طاولة حواره سيجد حولها صفين من السياسيين: صف المطرودين من حمى الانقلاب في مواجهة حزب النهضة، وقلة معه بادرت بالمعارضة، ولكنها لم تصر تيارا شعبيا رديفا للنهضة بالعدد، بل ظلت نخبة متميزة نوعيا وقليلة العدد.
الصف الأول ينطلق من خطاب واحد: تحميل حزب النهضة كل المآسي التي حدثت بعد الثورة ونفي كل مكسب حصل بما فيها الدستور (تمت استعادة تسمية الدستور بدستور النهضة بعد أن كان دستور الإجماع)، فإذا لم يقر له بهذه المقدمة فلا عمل مع النهضة مستقبلا. (نذكر بأن كل مكونات هذا الصف لم تنزل إلى الشارع ألف شخص معا منذ بدأت في النأي عن الانقلاب، وكان كل نشاطها بيانات سياسية أو قائمة شروط تصدر تحت التكييف). وهو يأتي طاولة التفاوض لا كشريك يقدر حجمه على الأرض، بل كصاحب حق مطلق يحمل في يده قائمة شروط للفرض لا للنقاش.
الصف الثاني حزب النهضة، وفي يديه قائمة تنازلات سياسية مغلفة بشعار (الكلمة السواء). ومن أجل ذلك لا بأس بأن يقدم قائمة طويلة من أخطائه دون بقية من شارك في الحكم ويتبنى كل الموبقات، فالمهم إسقاط الانقلاب.
لماذا يخول حزب النهضة لنفسه التنازل عما ليس من حقه؟ إن نقد المرحلة السابقة على 25 تموز/ يوليو حق للشعب الناخب وليس لحزب من الأحزاب، وهنا يقوم حزب النهضة بعملية تشبه "وعد من لا يملك لمن لا يستحق". وإذا كان له مطلق الحرية في قراءة تاريخ تجربته وعيوبها فإن نقدا آخر للمرحلة يظل دوما مشروعا، وخلاصته أن فساد ما قبل الانقلاب ساهمت فيه قوى نقابية وسياسية وشخصيات اعتبارية ودفعت الوضع إلى الأزمة التي استغلها الانقلاب. وكثير من هؤلاء يجلسون في مواجهة النهضة، وهي تقوم بتبرئتهم وفي ظنها أن ذلك على حسابها فقط، ولكن هذا التنازل يلحق ضررا فادحا بكل ضحايا ما قبل 25 تموز/ يوليو الذين هم الضحايا الفعليون للانقلاب.
كيف للسيد نجيب أن يعدل الخطاب حول الطاولة، خاصة أن خطاب لفلفة التفاصيل عنده لا يختلف كثيرا عن "خطاب الكلمة السواء"؟ هناك حق سيضيع حتما هو حق محاسبة من شارك في تعفين وضع ما قبل 25 تموز/ يوليو، والأدهى أن المخرب سيصير شريكا في الحل، بل يدا عليا فيه.
الانسحاب أفضل من المشاركة في الخديعة
قال لنا المفرطون في التفاؤل إننا سندخل رمضان بدون المنقلب، ولم يحصل نصيب، وهم يقولون الآن إنه لن يبلغ غايته بفرض دستوره وانتخاباته. وعندما نخفف سقوف تفاؤلهم بأن العمل السياسي الجاري لا يزال يحمل جرثوم ما قبل 25 تموز/ يوليو يهربون إلى أن الأزمة الاجتماعية ستعصف به (دعوه سيسقط وحده)، وهو ما يكشف هشاشة بالغة في خططهم.
ما نراه يجري على الأرض وخاصة بعد مظاهرة ١٥ أيار/ مايو يكشف لنا أن الحوار الشكلي ممكن (ونتوقع حدوثه قريبا)، وأنه يمكن أن يوفر مخرجا لكننا نراه مخرجا ملغوما بكل أسباب الأزمة، ولن يكون إلا استعادة لوضع ما قبل 25 تموز/ يوليو مع جرعة مزايدات يقول فيها المعفنون المتطهرون: نحن أسقطنا الانقلاب ويجب أن نحكم، يرد خصومهم: نحن كنا في الشارع قبلكم. (وهذا من قبيل قول الفريق المهزوم للفريق المنتصر: نحن سجلنا أولا، دون الانتباه إلى أن الهزيمة بعد التقدم في النتيجة تكون أشد وطأة).
وفي ظل عجز فرد وحده على التأثير على طاولة تفاوض (حوار)، تبدأ من نقد ذاتي وعلني أمام الجمهور المسكين، فإن الأشرف سياسيا عدم قبول ما سيصدر عن هذه الطاولة من حلول وعدم الترويج لنجاح كاذب؛ لأن الانقلاب سيستمر ولو بدون قيس سعيد، فجوهر الانقلاب هو الأزمة التي صنعته وأدت إليه (لقد حدث الانقلاب على الثورة قبل أن يظهر قيس سعيد في الصورة).
هذه الطاولة المغشوشة ستؤبد الانقلاب على الثورة.