رصد حقيقة المشهد السياسي هو ما يمكننا من التقدير الموضوعي للموقف واستشراف مستقبل البلاد . يتكون المشهد بصورة عامة من سلطة أمر واقع تتجه باطراد نحو عزلة سياسية داخلية و خارجية لغياب قاعدة سياسية تسندها وعدم تأكد وجود حاضنة شعبية بالمعنى الايجابي للكلمة الا اذا اعتبرنا حياد الشعب و عدم معارضته للسلطة نوعا من " الرضى " .
ولكن رغم هذه العزلة يبدو قيس سعيد مستفيدا بشكل جيد لحد الان من انقسام مشهد سياسي يحسن فيه الوظيفيون والفاشيون تحجيم مكاسب الشارع الديمقراطي حتى وان كانوا يظهرون معارضتهم لنظام الحكم الشعبوي.
وفي نفس السباق تبدو الادارة والاجهزة في وضع طاعة لسلطة 117 وان كانت تبدي بعض الممانعة على صعيد استهداف الحقوق والحريات نظرا للرقابة الدولية اللصيقة في هذا المجال وشجاعة الشارع الديمقراطي المضادد للانقلاب .
اللوبيات التقليدية ومربعات النفوذ المالي و الاعلامي والاكاديمي تتحرك على العموم في افق الاستفادة حد الثمالة من سلطة 25 جويلية لتفكيك مكاسب الانتقال و الاجهاز على دستور منظومة اكتوبر 2011 والتقدم اكثر لربح الميدان على حساب الشارع الديمقراطي مستفيدين من رمادية القوى الوظيفية وغضب الفاشية من انقلاب 25 جويلية دون ان تسلماه " لأعدائه و أعدائهما " .
يمكن اطلاق صفة " مانيش مع الانقلاب و لكن " على كل هذه القوى المجتمعة في هذه المنطقة الرمادية لما يسمونه بفرصة 25 جويلية باعتبارها تصحيحا للمسار ( اقرأها فرصة القضاء على النهضة ثم الديمقراطية والثورة ) و رغم استفادة سلطة الامر الواقع من هذا الطيف الكبير الا انه لا يمنحها القوة ولا يذهب الى التخلص من خصمها ( النهضة ثم الشارع الديمقراطي ) لأنه يعرف انه بذلك يمنحهم قوة انهائه بعد ذلك .وهذا ذكاء الانقلاب في تحويل الوظيفيين والفاشية الذين استعملهم في اسقاط مخرجات 2019 الى وضعية " ماساوية " من " الحب المستحيل " او " لا نحبك ولا نصبر عليك" فيصرون على هذه المازوسادية بين عدم اسناد الانقلاب وعدم معارضته .
تستفيد سلطة الامر الواقع بشكل براغماتي من موقف دولي حول تونس تحاول ان تسيطر فيه الانتظارية النقدية الفرنسية لتنضيج الحل وفق مصالحها التاريخية كما تحاول السلطة الاستفادة من المناورة الاماراتومصرية المورطة في مشروع يرونه فاشلا مستقبليا في ظل التحولات الجيواستراتيجية العاصفة ولكنها لا تتركه و بشيء من المغامرة يحاول بعض الوظيفيين نصح سلطة الامر الواقع بالاستفادة من التربص الروسي بالمنطقة وهو أغبى النصائح التي قدمها وظيفيون لسلطة منذ ولادة الدولة التونسية في التاريخ .
الطيف الديمقراطي الذي ينقسم الان بين مواطنون ضد الانقلاب / جبهة الخلاص بشارع بشري مهم من ناحية و ثلاثي التيار و الجمهوري والتكتل من ناحية اخرى يبدو ذا اسبقية اخلاقية على الجبهة الوظيفية / الفاشية التي تحاول ان تكون بديلا عن قيس سعيد لاستعادة سيناريو افتكاك السلطة مباشرة بعد 14 جانفي او بعد حوار 2013 .
الجبهة الوظيفية / الفاشية تتمتع دوما بأسبقية هيمنتها على المشهد الاعلامي والادارة العميقة و منظمات المجتمع المدني الرسمية كما تتمتع بدعم المستعمر التقليدي و الاستفادة من انقسام الطيف الديمقراطي المذكور اعلاه على الموقف من النهضة رغم محاولة الاستاذ نجيب الشابي اقناع الثلاثي التيار والتكتل والجمهوري بتجاوز هذا الاشكال ورغم ان هناك ورقة اهم وهي قوة الشارع الديمقراطي لمواطنون ضد الانقلاب / جبهة الخلاص و المجال السياسي غير التقليدي اي مجال الناس والنخبة الثورية التي حررتها 2011 ومنعها المجال السياسي التقليدي في المركز من شروط مصارعته ديمقراطيا ( الاعلام والاكاديميا وبناء مجتمع مدني جديد ) .
من جهة حتمية التاريخ ستذهب الديمقراطية الوطنية الناهضة ( التي اعلنت مضاددة الانقلاب واحتلال الشارع على منذ يومه الاول على امتداد 15 وقفة مركزية و 5 جهوية الى حد الان ) ستذهب الى الالتحام بالشارع الشعبي قريبا لان هذا الشارع لن يجدها غير هي .وليس هناك اي امكانية لاستمرار انقسام هذا الطيف حول موقع النهضة والموقف النقدي من العشرية .
الانقلاب الشعبوي لا يملك قدرة تحويل حزامه من الحشود الغامضة للشعبوية المتصدعة الى جبهة القوى الوظيفية التقليدية اوالفاشية الا بدون قيس سعيد و هذا مستحيل .
الوظيفيون يصعب ان يجدوا تسوية مريحة مع الانقلاب او مع الفاشية وسوف يجبرهم راعيهم الدولي التقليدي على مفاوضة الطيف الديمقراطي المضادد للانقلاب .
المرور بمرحلة انتقالية تسووية سيكون ضروريا بين الجبهتين .الوقت ليس ضاغطا : ينضجون او يستمر بخطوط حمراء .