منذ 25 جويلية و البلاد تعيش حالة ( لا اعتقد ان ذلك حدث حتى في عهد البايات حيث كان للأوامر العلية منزلة معلومة في منازل القانون الوضعي ) غير مسبوقة من الفوضى القانونية حتى أصبح الأمر موضوع تندر لدى كثير من التونسيين.
فهم ينامون ليصحوا على أمر أو مرسوم صادر في الهزيع الأخير من الليل حتى حدث أن يصدر الرائد الرسمي مرتين في يوم واحد . صرنا نخشى أن نغفو لنستفيق على بعض الكوارث القانونية التي لا احد يتصورها.
ضاعت الهرمية القانونية لهانس كيلسن فالقانون عنده يكون "في شكل هرمي، وقواعده بعضها يعلو على بعض في الدرجة، وصحة القواعد الموجودة في كل طبقة تعتمد على القواعد الموجودة في الطبقة الأعلى" ويعلو الدستور كل القواعد التي تقع تحته . غير أن الأمر الرئاسي صار عندنا أعلى من الدستور والأوامر أعلى من القوانين أما المراسيم فتتساقط علينا في غياب مجلس نواب الشعب وخارج ما يحدده الدستور من استعمال رئيس الجمهورية للمرسوم.
قراءة بقية فصول الدستور ال ثمانية والأربعين الأخرى . فقد أكلها فصل الاستثناء الذي استثنى كل منطق أو تأويل او قراءة غير التي تبيح للرئيس أن يفعل ما يشاء وقت ما يشاء.
صرنا نخشى أن يبيح هذا الفصل لرئيس الجمهورية أن يغير اسم تونس أو علمها أو حتى مواسمها وأعيادها بواسطة مرسوم أو أمر.
قال لنا واحد من جهابذة كليات الحقوق قبل أن يتراجع ويصبح من أعداء 25 جويلية ان الرئيس استند إلى مبادئ فوق دستورية ليبرر عدم الالتزام الحرفي بما ينص عليه الفصل80 الذي يقرر أن مجلس نواب الشعب يبقى في حالة انعقاد دائم إذا التجأ رئيس الجمهورية إلى حالة الاستثناء وأن المجلس لا حق له في توجيه لائحة لوم ضد الحكومة حفاظا عليها.
توسع الرجل في الهذيان حول مبدأ السلم الاجتماعية والصحة العامة وقيمة الحياة البشرية كمبادئ تعلو الدساتير جميعا في وقت كانت فيه الكورونا تحصد أرواح التونسيين . عبثوا بعقل التونسي الذي صار كالكرة يتقاذفونها على هواهم ويغيرون رأيهم كما تغير ثوبك في يومك قائظ.
آخر ما تفتقت عنه عبقريتنا القانونية هو أن نحدث على قانون استثناء قبل اعتماده وفق ما نحتاجه إذا كان لا يستجيب لما نريده منه على حاله ...لا مشكلة فالبروكولاج موجود و "الليقة تجيب" . فاذا كان الفصل 113 من "قانون الانتخابات والاستفتاء " ينص على أن الدعوة إلى الاستفتاء تتضمن وجوبا نص المشروع المعروض على الشعب.. فلا مشكلة .. ما الضرر في هذه الحالة أن نحدث استثناء على القانون بمرسوم ؟ فالمرسوم أعلى درجة من القوانين وبإمكانها ان تحدث اي استثناء عليها . وهكذا فعوض أن يصدر نص مشروع الاستفتاء مع الدعوة نصدر الدعوة دون نص استنادا الى استثناء عبقري أجريناه عليه هكذا نبيح لأنفسنا أن نصدر الدعوة اليوم ونصدر نص المشروع بعد شهر.
اما السؤال فما حاجتنا ان نلتزم به أيضا . » فالسؤال في نص القانون هو التالي الفصل 115 - تتم صياغة نص السؤال المعروض على الاستفتاء على النحو التالي: « هل توافق على مقترح تعديل الدستور أو مشروع القانون المعروض عليك؟ » ولا تكون الإجابة عليه إلا بـالموافقة أو الرفض هكذا يصاغ السؤال قانونيا لأنه ليس هناك أي دستور أو قانون يبيح أن نلغي دستورا ونأتي بدستور جديد خارج أي إطار دستوري او وفاق مجتمعي يلزم الجميع مثلما وقع ذلك في 2011 حين قرر التونسيون الذهاب إلى مجلس تأسيسي للوصول إلى دستور جديد يلغي دستور 1 جوان 1959
وبقدرة قادر يصبح السؤال في نص الأمر الرئاسي عدد 506 لسنة 2022 مؤرخ في 25 ماي 2022 يتعلق بدعوة الناخبين إلى الاستفتاء في مشروع دستور جديد « الفصـــل 2 ـ يجيب الناخب بكلمة « نعم » أو « لا » عن السؤال الآتي": هل توافق على مشروع الدستور الجديد للجمهورية التونسية " ؟
بالاطلاع على الدستور نلغي الدستور
هكذا وبالاطلاع على الدستور كما ورد في نص الأمر ( يا للغرابة! ) نلغي الدستور نفسه و نعبث بكل حرية بالضوابط القانونية المرتبطة بالاستفتاء …فدستور 2014 لا يستبعد الاستفتاء بل يجعله طريقة من الطرق الديمقراطية في شكلها المباشر المعتمدة ولكنه يجعل من الاستفتاء نوعا من الفيتو الذي يمارسه رئيس الجمهورية ضد مجلس النواب في حالة مصادقته على مشروع قانون أساسي ( يصادق عليه بالأغلبية المطلقة أي 109 صوتا من 217 ) في ثلاث مواد بعينها متعلقة بالأحوال الشخصية أو المعاهدات الدولية أو الحقوق والحريات ) أو في حال مصادقته على تعديل الدستور بأغلبية الثلثين أي 145 صوتا عقب مراقبة المحكمة الدستورية لمشروع التعديل بشكل ما قبلي وما بعدي) ..و يتضح من دستور 2014 وهو يشبه في ذلك كثيرا من الدساتير المقارنة أن الاستفتاء يهدف في فلسفته العميقة لا إلى المصادقة على المشروع سواء كان مشروع قانون او مشروع تعديل للدستور بقدر ما يهدف الى نوع من الرقابة التي يجريها رئيس الجمهورية باعتباره الضامن لاحترام الدستور على مشروع قانون أو مشروع تعديل للدستور من اجل الاعتراض عليه أكثر من اعتماده Dévalidation اذ أن عرضه على الاستفتاء لا يكون إلا بعد مصادقة المجلس على مشروع القانون او مشروع تعديل الدستور و تكون الدعوة إلى الاستفتاء تخليا من رئيس الجمهورية على حق رد المشروع اذا كان يعني قانونا إلى المجلس.
ليس هناك إي استبعاد من دستور 2014 للديمقراطية المباشرة في حالات محددة غير أن كل الدساتير الديمقراطية تحيط الاستفتاء بضوابط دستورية فليس هناك أي استفتاء دون مراقبة من الدستور نفسه وإلا تحول إلى طريقة للتحيل على الشعب وأداة من أدوات الاستبداد بشعار " حكم الشعب لنفسه بنفسه وواحدة "من الطرق المعروفة للانقلاب على الدستور والقانون وتخريب عمل البرلمان.
الفوضى التشريعية
ان الحالة التي نعيشها اليوم في تونس جعلت من الحديث عن القانون نوعا من العبث الذي لا طائل من ورائه . فالقوانين ليست نصوصا تحبر في الغرف المغلقة لا أحد يدري من صاغها ولا كيف صاغها ولا من شارك فيها ولا من وقع استشارته بشأنها وتصدر في الرائد الرسمي في الهزيع الأخير من الليل . إن قانون الدولة الديمقراطية له معنى اكبر وأعظم من ذلك فالقانون هو خلاصة العقل الديمقراطي و المنهجية التشريعية المفضية إلى وفاق عماده الأغلبية ..فالقانون ينشأ أولا كمبادرة أو اقتراح صادرين عن جهة محددة : رئيس الجمهورية او رئيس الحكومة او مجموعة من النواب . فجهة المبادرة او الاقتراح معلومة وينشر مشروع القانون ليطلع عليه الجميع . يناقش أولا في مستوى اللجنة المختصة بحسب نوع القانون التي يحضرها الإعلام وينقل مداولاتها إذا كانت لا تبث مباشرة في وسائل الإعلام . وفي حالة مصادقة اللجنة على مشروع القانون على حاله ( وهو أمر نادر الوقوع ) أو إجراء تعديلات عليه يمر إلى الجلسة العامة حيث تتصارع الآراء المعبر عنها من الأحزاب مختلفة الرؤى والتوجهات و يناقش في الجلسة العامة نقاشا حرا ويخضع إلى كل أنواع التعديل والتصويب على النسخة الأصلية التي تعرض أيضا ليمر أخيرا إلى التصويت ويعتمد بالأغلبية المستوجبة أو يرفض المجلس المصادقة عليه.
إن الفوضى التي يتحجج بها البعض لحل البرلمان هي بلا شك اقل خطرا من الحالة التي نعيشها اليوم وتجد من يدافع عنها فإذا كان هناك خطر داهم فهي حالة الفوضى التشريعية التي نحياها وهي حالة غريبة وغير مسبوقة حيث أصبحت الأوامر والقوانين والمراسيم تتساقط علينا كالبلاء المنزل ، تعبر كلها عن إرادة شخص لا اعتراض عليه ولا رقيب له ولا حسيب. لا راد لإرادته فهو الفاتق الناطق و الحاكم الأوحد غابت هيئة مراقبة دستورية مشاريع القوانين التي وقع الإجهاز عليها رغم ان وجودها في غياب المجلس التشريعي لا يعني شيئا كما غابت المحكمة الدستورية أو بالأحرى لم تولد أبدا جراء طفولية نوابنا او استهتارهم رغم أن موت الباجي قائد السبسي قد أشعل كل الأضواء الصفراء و الحمراء في عيونهم العمشاء كما غابت المحكمة الإدارية فمراسيم الرئيس وأوامره لا تخضع إلى أي طعن بدعوى تجاوز السلطة .وقبل كل ذلك غاب مجلس نواب الشعب وخرس المجتمع المدني أو يكاد ، هذا إذا لم يتحول إلى مشارك في هذه الفوضى وداعم لها.
حالة غريبة لا احد يدري متى تنتهي ولا كيف تنتهي ….وله الأمر من بعد ومن قبل.