لو كانت عندي سلطة في وزارة التربية، لجعلت رواية "خريف البطريرق" للكاتب الكولومبي غبريال غارسيا ماركيز الحائز على نوبل للأداب، مادة إجبارية في الثانوي للأسباب التي سأذكرها، ولأن ذلك يتعذر حقا، فهل يملك السادة أساتذة الأدب في التعليم الثانوي سلطة الاقتراح والتوجيه؟ لأن هذه الرواية التي تروي تفاصيل كل ما حدث لنا، تفكك علاقتنا المعقدة بالسلطة وتسخر منها وتعري كل أغطية الشرعية الذي تتلحف بها،
سيتفق النقاد أن الرواية كانت بناء واقعيا مذهلا من أربع شخصيات حقيقية أضاف لها ماركيز من موهبته الفذة صورة "الواقعية السحرية" للحاكم الطاغية الذي يتعفن في السلطة إلى أن يصاب بالذهان ونسيان تاريخه العسكري في ظل تشتت المعارضة وحروبها الداخلية وضعف القوى المدنية،
هذه الشخصيات هي الجنرال التشيلي بينوشي والإسباني فرانكو والكولومبي الدموي بينينا والفنزويلي خوان غوميز. صدرت الرواية عام 1975، ومن الواضح أنه كتبها في منفاه الاختياري في إسبانيا سنوات السبعين تحت تأثير حكم الجنرال الطاغية المزاجي فرانسيسكو فرانكو الذي حكم إسبانيا 1936–1975، جنرالا وصيا على المملكة الاسبانية 1947–1975، لكن من المرجح أنه اخترع شخصية الجنرال الحاكم الأبدي الأبله الذي كان يجر قدميه المفلطحتين في أروقة قصر الحكم وهو يرى نفسه أربعة عشر جنرالا في مرايا القصر، هم تاريخ الوطن من الحكام الطغاة، بدفع من حالة الاكتئاب التي أصابته بعد اغتيال إحدى شخصياته الملهمة الديموقراطي الاشتراكي "سلفادور ألندي"، الرئيس الشرعي لجمهورية تشيلي بالانتخابات بتدبير من المخابرات المركزية الأمريكية في سبتمبر 1973 وتنفيذ من الجنرال الدموي أوغيستو بينوشيه الذي لن يغادر السلطة إلا بعد إصابته بالعته وحماية جنرالاته له من أية متابعة قضائية،
ما يعجبك في الخيال الروائي ليس فقط ما يمكن أن يجترحه الطاغية من إجرام في حق الناس من أجل غواية البقاء في السلطة، بل براعة الكاتب في وصف تعفن الجنرال الطاغية في هذه السلطة، حيث يطوف مراحيض القصر الرئاسي لكي يكتب على جدرانها "عاش الجنرال، عاش الفحل، عاش أنا"، أو حين يقول عن محاولة شريكه في السلطة ولعب الديمينو، وزير الصحة في الانقلاب عليه: "أولاد القحبة، يريدون أن يكونوا أنا"، لأن أنا هي الحق، هي السلطة، هي القوة التي لا تقبل الآخر لأنه ليس فيها مكان لإرادة الناس.
هنا، يروي صحفيان من جريدة البايس الإسبانية أنهما نجحا في إخراج الكاتب ماركيز من عزلته عام 1973 لما أشيع أن الناس يعثرون على ما يكتبه ممزقا إلى قطع صغيرة لأنه فشل في الخروج من قريته السحرية التي اخترعها في رواية مئة عام من العزلة "ماكوندو"، قال لهما: "أكتب شيئا لم يسبقني إليه أحد، أكتب عن الطاغية الذي يأكل معارضيه مشويين"، وبالفعل، فقد ذهب ماركيز أشواطا سحرية في وصف الطاغية الذي يأمر بوضع شريكه في السلطة المدفعي الجنرال وزير الصحة في الفرن، مشويا متبلا بكل التوابل الهندية في زيه العسكري الشرفي بكل نياشينه ورتبه مع قتة معندوس في فمه في يوم عيد السلطة والوطن والوطنية، ويأمر ضيوفه بأكله فورا (بدءا بممثل رابطة حقوق الإنسان والشعوب)، ثم "تغني مدفعية الميدان في القاعة الشرفية" للقصر في صدور الضيوف جميعا: قوادين قدامى وآخرين مستجدين وشرفاء ومجهولين جمعهم سوء الحظ والثقة في السلطة،
إذا غيرنا رصاص المدفعية بإجراءات السجن والتعذيب في دهاليز وزارة الداخلية وتشريد وافتكاك الممتلكات والمحاكمات العسكرية بالأمر الموحش والعزل من الوظائف وحملات التشويه بتسريب الوثائق وتدليسها والأمن الداخلي والوشايات وتقارير الوشاية، فنحن فيها منذ أن رحل الاستعمار، لا يتوقف ماركيز في تدميره لشخصية الطاغية عند ذلك الحد الذي لم يسبقه إليه أي كاتب، بل يخترع له شخصية حقيقية "ناشو" المدير السري للتعذيب، لانتزاع الاعترافات غير الحقيقية، رجل شاذ عاطفيا وجنسيا لا يثق إلا بكلابه المدربة على افتراس البشر، ماذا لو غيرنا الكلاب بالبشر الجاهزين للافتراس؟ ألا تشجع أجهزة الدولة على الافتراس وأكل اللحم الحي بالوشاية الظالمة والتجسس على الناس في بيوتهم ومداهمتهم في الفجر في السطح لترويع الشيوخ والأطفال؟ لأن الكلاب لا تفعل ذلك،
"ما معنى الوطنية؟" يقول أستاذ العربية في القسم للتلاميذ؟ وهذا أحد أبواب وجاهة تدريس هذا الرواية في العالم العربي، لبيان فظاعة حكم الجنرالات المزيفين الذين لم يخوضوا أية حرب إلا ضد مواطنيهم وبيان الخسارة الفادحة من الصمت والتسليم. لا يترك ماركيز أية لحظة من هذه الرواية التي تقرأ بنهم، دون أن يسخر من الجنرال الحاكم، فحين أصيبت أمه بهذيان الشيخوخة وبدأت تروي كيف أنجبته سفاحا من عابر طريق مجهول، واقفة بين عراجين الموز الأخضر في كوخ دعارة على الطريق لكي تأكل، ينز منه الماء من كل مكان، كان يأمرها بمراسيم الدولة أن تتوقف عن تشويه التاريخ القومي المجيد للوطن الذي يدرس للناشئة،
السخرية في أن أمه هي الكائن الوحيد الذي لا يصدق أنه زعيم شرعي، فهي التي رمت بهذه القذارة الإنسانية في العالم التي كانت تعاني سرا من فتق خلقي تجعل ضغط هواء التنفس ينفلت إلى خصيتيه فتصدران صوتا شبيها ببكاء رضيع تركته أمه، أم الطاغية التي طافت به المشعوذين والسحرة في الأسواق بحثا عن علاج لبكاء خصيتيه فيهزون رؤوسهم علامة عدم الأهمية: "يمكنه أن يعيش حياة عادية، بشرط أن لا يستعمل آلات النفخ"، يا للاحتقار، ليت كل طاغية يقرأ هذا، بحثا عن ثقب رمزي في قلبه أو خصيتيه أو عقله يعيقه عن المشاعر الإنسانية لضحايا سلطته غير المحدودة،
أكتب هذا مدفوعا بمشاعر إحباط عمرها أربعون عاما، عندما كان الأدب اللاتيني في سنوات السبعين والثمانين يسخر من الواقع المر ويفككه من أجل إعادة تركيبه، كانوا يفرضون على جيلي الطري منذ بداية الثمانينات قراءة علي الدوعاجي الذي لم يكتب سوى خواطر تسر الخاطر في قصص قصيرة قبل أكثر من نصف قرن، مصطفى الفارسي وسرقت القمر والقنطرة هي الحياة أو الرواية الرسمية الكئيبة للاشتراكية العمومية البذيئة في خدمة السلطة، العروسي المطوي الذي لم يكتب سوى حليمة التي لا تستحق أن تكون أكثر من 2 سنتيمتر مجهول في مكتبة شخصية، ثم، والله، "صلعاء يا حبيبتي" التي تسبب عنوانها وحده لي في الطرد من الدراسة لأسبوع، لأني قلت للأستاذة: "مش صلعاء فقط، بل لها عين واحدة"، أكتب لأني قلبي معبي، ليس فقط على الأدب المدرسي، فهو مجرد نتيجة بائسة، بل على علاقتنا بالسلطة،