بقطع النظر عن أن التنصيص على أن "الإسلام دين الدولة" هو من القواسم المشتركة لكل الدساتير العربية تقريبا، وأنه جزء من تاريخ يعود إلى دولة الاستقلال بعد أن فرض نفسه على إثر معارك طويلة ضد الاستعمار باسم الدفاع عن الإسلام وليس على إثر صراع مختلق بين فريقين مختلفين إبان مداولات المجلس القومي التأسيسي كما زعم البعض، فإن الدعوة إلى إلغائه اليوم لا يمكن فهمها على أنها محاولة لفسح المجال لدولة لائكية تسوّي بين مواطنيها خارج معايير الإلحاد والإيمان، بقدر ما نرى فيها تقديرا قاسيا للإسلام وأنه بات عبئا لابد من التخلص منه، مع أن التجربة التونسية أثبتت أن الاسلام "كائن حي" يتفاعل مع العصر ويتطور مع الأحداث، تطورا ما كان ليكون لولا التنصيص على "دين الدولة" في الدستور.
ذلك أن الدولة التونسية وإن نجحت في تحقيق حداثتها في المجال القانوني والديني معا، فإن ما ينبغي التأكيد عليه هو أن هذه الحداثة قد تحققت بفضل الدستور، بالنظر إلى أن الالتزام بما ورد في "فصله الأول" حول "دين الدولة" مع ما يترتب عن ذلك من آثار قانونية، هو الذي أسس لما يمكن أن نعتبره "إسلاما تونسيا حداثيا". إذ بفضل "هذا الفصل"، نجحت تونس في الانخراط في الحداثة دون أن تقطع مع الإسلام، وذلك بعد أن بدأ يتبلور فهم جديد للإسلام تجلى خاصة من خلال أحكام القضاء وأعمال المشرع وأعمال السلطة التنفيذية؛ وهو فهم يقوم أساسا على "التعايش" مع "حقوق المرأة" و"المساواة" و"دولة القانون" و"القيم الكونية لحقوق الإنسان" و"التصالح مع حرية المعتقد" في كنف روح الاجتهاد والتسامح والانفتاح على الآخر. ومثل هذا الفهم للإسلام لا نكاد نعثر عليه إلا في تونس.
صحيح، أننا لم نكن لنتوصل إلى هذه النتيجة لولا الوقوف على جملة من المقدّمات المتداخلة التي ساهمت في التمهيد لها، ولعل أهمها ما يعود إلى "الدسترة المحدودة للإسلام" التي تمت بين 1956 و1959، وذلك بتجاوز كل المفاهيم التقليدية للإسلام السياسي-الفقهي، (على خلاف ما وقفنا عليه في باقي الدساتير العربية)؛ حتى لم يبق منها لا "بيعة" ولا "طاعة"، ولا "إمارة" ولا "سلطنة" ولا "أمة إسلامية"، ولا "فقه" ولا "شريعة إسلامية"، ولا "شورى" ولا "محاكم شرعية"، ولا "زكاة" ولا "حسبة" ولا "أوقاف"... الشيء الذي ساهم في تجريد سلطات الدولة ومؤسساتها من أي سند دستوري يمكن التأسيس عليه لإحياء إسلام تقليدي أو فقهي.
ولكن ما كان لهذه النتيجة أن يكون لها معنى لولا "دسترة الإسلام" باعتباره "دينا للدولة". وهو ما نتج عنه، بعد الإقرار بفاعلية الإسلام وتأثيره في الشأن العام بعيدا عما راكمه طوال قرون من جمود وركود، الإقرار بوجود ثلاثة أنواع من الإسلام، أو لنقل ثلاث قراءات له: "إسلام حداثي" (كما في حالة تونس)، و"إسلام شبه حداثي أو شبه محنّط" (كما في حالة سوريا ولبنان والمغرب والجزائر ومصر)، و"إسلام محنّط" (كما في حالة السعودية). ومن ثمار هذا التوجه أنه بقدر ما أفضى إلى منع الدولة من الانزلاق نحو التأسيس لـ"دولة دينية"، فإنه أفضى إلى "تحديث فهمنا للإسلام" بعيدا عن ضيق الأفق الفقهي المتكلس الذي عفا عنه الزمن، فبفعل تجاور لفظ الإسلام مع مفاهيم الدولة الحديثة في النص الدستوري نفسه، تفاعل فهمنا للإسلام معها إيجابيا، فحققت تونس بذلك تميزها عن سائر الدول العربية وحتى الإسلامية، لا لأنها سلكت منهج الاستئصال والقطيعة مع التراث كما حصل في تركيا الكمالية مثلا، ولكن لأنها سلكت منهج التواصل مع الإسلام والتصالح مع قيم العصر في الوقت نفسه، كما أكد بورقيبة على ذلك مرارا.
وبهذا المعنى يمكن القول إن "دسترة الإسلام" فرضت حالة من التصالح مع التراث الإسلامي، وذلك بتغليب ما يختزنه هذا التراث من قراءات منفتحة ومتسامحة على حساب القراءات الأكثر تشددا. ولم يبق حينئذ مبرّر لأي خشية من أن تؤدي مثل هذه "الدسترة" إلى "أسلمة الدستور" والتأسيس لـ"نظام قانوني رجعي". كل ما في الأمر أن "إسلام التونسي" بات أكثر مواكبة لـ"روح العصر" وأمتن صلة بـ"مقاصده الأولى والأصيلة". وهنا بالذات تجد "المقاربة الفييرية" رجْعَ صداها: فلئن فسّر "فيبر" سبب ظهور الرأسمالية في الغرب كنتيجة أفرزها "التقاء الأخلاق البرتستانية بروح الرأسمالية" في إطار ما يسميه هو بـ"مفارقة النتائج غير المنتظرة" (paradoxe des conséquences inattendues) ، فقياس على ذلك، يمكن أن نفسّر "التقاء الإسلام بالدستور" كنتيجة أفرزتها "الحداثة القانونية في تونس" !؟
على أننا، وإن كنا نتفهّم رغبة اللائكيين في "تحرير الدولة من الإسلام"، لما يوفره ذلك من إمكانية لتحرير الإنسان من وصاية المقدس وقيوده الأخلاقية المفروضة مثلا على المثليين واللادينين، فإننا نراهم يَغفَلون - أو يتغافلون - عن"حاجة الدولة الملحّة إلى الدين"، وعن أن "تخليصها منه" لن يكون في اتجاه واحد كما يتوهّمون، ولن يزيد إلا في نشر الهرطقات المتطرفة، وذلك بعد أن تكون الدولة قد جُرّدتْ من دورها الفعّال في حراسة الشأن الديني ورقابته. وهذا مخالف حتّى لاتّجاه التفكير لدى كبار الفلاسفة الملحدين في الغرب (على غرار "هابرماس" وغيره) الذين أصبحوا أكثر ميلا إلى الاستنجاد بالمسيحية للتصدي لأخطار التكنولوجيا وتحديات التقدم الطبي من أجل معالجة كبرى الإشكاليات الأخلاقية: من قبيل "الاستنساخ"، و"كراء الأرحام"، و"التصرف في الأجنة"، و"بيع الأعضاء"، و"الموت الرحيم"، و"الانتحار المخيّر" و"نكاح المحارم"، وما أشبه..