اهدي هذا النص الى كل عمال تونس في إضرابهم اليوم 16 جوان 2022 ..أساندهم مساندة مطلقة وأدافع عن حقهم في حياة كريمة ..نحن نختلف مع القيادة، ولكن لا نخون قضية العمال ولا نتخالف مع السلطة ضد الاتحاد .
من لا يقرأ التاريخ لا يعرف ان هذه المنظمة هي روح تونس ونبضها الحي وصمام أمانها ضد كل المحن ..تذهب الحكومات كلها ويبقى الاتحاد بنجمته العالية تضيئ سماء هذه البلاد التي تدلهم سماؤها بسحب سوداء كثيفة احيانا، ولكنها لن تطفى نور النضال العمالي .
عاش الاتحاد العام التونسي للشغل حرا مستقلا ومناضلا .
قصة نقابية بعطر تونسي
يجمع النقابيون في تونس أن تاريخ الحركة النقابية هو تاريخ التلاحم الأصيل بين العمل النقابي و النضال السياسي؛ فقد مثلت الحركة النقابية منذ بدايتها في العشرينات من القرن الماضي البعد الاجتماعي في الحركة الوطنية التونسية بالتوازي تماما مع الجناح السياسي الممثل في الأحزاب الوطنية واليسارية التي نشطت في تونس منذ تأسيس عبد العزيز الثعالبي للحزب الحر الدستوري سنة 1920.
وهو أمر يثبته التاريخ وتدل عليه الوقائع الثابتة رغم انه كان أحيانا محل انتقاد من بعض القوى التي ترى في ذلك ضربا من الانحراف عن طبيعة العمل النقابي وشروطه ومستلزماته رغم ذلك لا احد يمكن ان يشكك في " أن الجناح النقابي كان دوما القاطرة التي جرت، في أحلك الظروف، بقية العربات داخل الحركة السياسية ". كما يقول أحد النقابيين.
رب ضارة نافعة !
لقد سبق تشكيل الأحزاب السياسية في تونس تشكيل النقابات التي أضافت إلى جانب نضالها الوطني قيادة العمل النقابي ونضالات العمال المطلبية لكي تندرج بعد ذلك مع النضالات الوطنية العامة ضد المستعمرين الذين حملوا إلى تونس نظامهم الاستعماري المدعوم بقوة رأس المال . ولكن حملوا أيضا معهم أفكارهم وتجاربهم في الحقل النقابي على الخصوص التي عرضها الطاهر الحداد في القسم الأول من كتابه " العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية " الصادر سنة 1927وأشاد بها في كثير من الإعجاب .
فرب ضارة نافعة إذ أن الوجه البغيض للاستعمار يخفي فكرا عظيما وحركات سائرة بنجاح في تحسين وضع العمال المستضعفين. لقد أنتجت أوروبا علماء منقطعين لخدمة الإنسانية يبحثون في الحياة الاشتراكية وفق نظام اجتماعي. فتمخضت هذه الأبحاث عن واحد من أعظم من أنتجته الإنسانية في أوربا وهو كارل ماركس الذي عد كتابه بحسب تقييم الطاهر الحداد غاية أحلام الإنسانية ومبدأ يقوم على إعضاد العمال .
هكذا لم يكن الطاهر الحدّاد مؤرّخا عاديّا ولم يتبنّ موقفا حياديّا بدعوى حياد المؤرخ أو الموضوعية الوهميّة، بل أعلن منذ البداية تبنيه للفكر الاشتراكي كما أعلن عداءه الصريح لرأس المال الذي كان قاسيا منذ التاريخ وهو بقدر ما يتسع له العلم والتجربة يزداد رسوخا وأمنا على مستقبله في تسخير العمال بصورة تجعلهم على الدوام في حاجة إليه لتسديد معاشهم وهو لا يعطيهم من ذلك إلا قليلا، ولكن بقدر نقد الطاهر الحداد لرأس مال كان نقده قاسيا لتونس ولأوضاعها الاقتصادية.
فالمنتجون التونسيون بصفة عامة يسيرون في عملهم بلا عقل عندهم غير حب الفرد لنفسه بصورة مرضية مشطة وغير التحاسد وذلك متأت من اعتقاد كل واحد فيهم أن جاره الذي نزل قريبا منه لو لم يوجد لأنضم حرفاؤه اليه فيزداد بذلك ربحه . لقد كانت النفرة وانقطاع الرابطة شيئا ينتشر ظله بين كل التونسيين تقريبا إلى إن لمعت تلك الفكرة العظيمة التي جاء بها محمد على.
محمد علي الحامي
رجع محمد علي الى تونس من أوروبا وهو مزود برؤية اقتصادية اجتماعية يعتبرها الأرضية الضرورية لكل نهضة. لم تكن فكرته أولا تتعلق بالعمل التقابي بل كان يحلم بتكوين تعاونيات زراعية غير أن إضرابا عظيما سيغير وجه التاريخ وهو إضراب عمال الرصيف يوم 18 أوت 1924 أضرب العمال في حركة احتجاجية "وحشية " بحسب المصطلح النقابي . أي اضربوا دون إن يستندوا إلى تنظيم يؤطر عملهم أو يتبنى مطالبهم .وفي بورصة الشغل عندما كان العمال يناقشون مخلفات الإضراب يوم 13 اوت يتقدم محمد على ليطرح مشروعه التعاوني وبدلا من يقنع هو العمال بمشروعه فان العمال هم الذين سيدفعونه إلى دعم إضرابهم. أنها بادرة عفوية غير أنها انجاز تاريخي سرعان ما أدرك محمد على قوته.
نقابة لكل التونسيين
ان العملة التونسيون في تلك الفترة منضوين تحت لواء نقابتين فرنسيتين : التحالف العام للعمال CGT والتحالف العام الوحدوي للعمال CGTU.
لقد عرف العمال الفكرة النقابية ضمن نضالهم مع رفاقهم العمال الفرنسيين وغير الفرنسيين ولقد استفاد التونسيون بلا شك من الاحتكاك بالنقابيين الفرنسيين واكتسبوا خبرة غير أنهم اكتشفوا سريعا إن هذه النقابات الفرنسية لا تخلو من التمييز والفكر العنصري ولعل أجلي صورة من صور الميز ضد العامل التونسي هو ما كان يسمى بالثلث الاستعماري أي زيادة يتمتع بها العامل غير التونسي تقدر بثلث الأجر.
لقد جرب عمال الرصيف الإضراب عن العمل مرارا وتكرارا وعانوا الأمرين من جوع وفقر وغياب للدعم المالي والإسناد الروحي المعنوي التي يحتاجها أي احتجاج طويل ومرير وغير مهيكل يمتد على مدى أسابيع . تواصل إضرابهم دون إن يلتفت إليهم أحد وحتى اتحاد النقابات الفرنسي ذو الميول اليسارية فانه ما كان يعنى بهم أو يحسب لمستقبلهم حسابا وسواء عنده أعلنوا إضرابا أو لم يعلنوا فذلك أمر لا شأن ولا دخل له به . هكذا سترتبط منذ الأساس الفكرة النقابية بالإحساس بالانتماء إلى الوطن المستعبد والمهان مما سيفرز مع مرور الزمن وتعاقب التجارب النقابية الرائدة والعظيمة من محمد على الى فرحات حشاد شهيد الحركة النقابية تلاحما وترابطا عضويا بين الفكرة النقابية والفكرة السياسية .
بين الوطني والنقابي قصة تونسية فريدة
لقد أدرك الحزب الدستوري انه بإمكانه الاستفادة من الحراك الاجتماعي لتعزيز مطالبه الاصلاحية . فالتحق بإضراب عملة الرصيف فكان أعضاؤه ضمن اللجان التي تكونت لإسناد الإضراب. هذا التلاحم بين السياسي والعمالي هو الذي نجد أثره في الاتهامات الموجهة إلى محمد علي والتي حكم على أساسها إذ ارتبطت المحاكمة بوجود صلات بين حزب الدستور الذي سيتهم صراحة بأنه ينشر في دعايته بين التونسيين " بان فرنسا مفلسة اقتصاديا ومتسلطة سياسيا وغرضه من هذه الدعاية النشيطة التحصيل على الاستقلال " .
والجامعة . لقد كان محمد على بحسب التهم الموجهة إليه أثناء محاكمته همزة الوصل بين الحقلين السياسي والنقابي وهو الذي عينته سوابقه وإقامته الطويلة بتركيا ثم ألمانيا للقيام بهذه المأمورية بصفة خصوصية كما جاء ذلك في الصحف الفرنسية إبان المحاكمة. وفي صبيحة يوم 5 فيفري 1925، ثمّ إيقاف محمد على ، ورفاقه النقابيين الآخرين ليمثلوا أمام القضاء بتهمة التآمر علي الأمن الداخلي. وقد قضت المحكمة بنفيهم جميعا خارج البلاد. وبعدها عاش محمد علي حياة مضطربة قادته إلي ايطاليا، ثم إلي تركيا، ثم طنجة حيث كان ينوي الالتحاق بثورة الريف بقيادة عبد الكريم الخطابي، ثم إلى مرسيليا، ومنها إلى القاهرة حيث عمل سائقا لشخصية سياسية كبيرة.
الطاهر الحداد المؤرخ المناضل
لقد كان الطاهر الحداد مؤلف كتب "العمال التونسيون وظهور الحركة النقابية " مؤرخا بلا شك سجل الأحداث بدقة وتابع نضالات العمال يوما بيوم، ولكنه كان جزءا لا يتجزأ مما كان يكتب . كان خارج الصورة في دقة العالم وصرامة وصفه، ولكن داخل الصورة أيضا ، كواحد من مناضلي جامعة عموم العملة التونسيين النقابة الوليدة التونسية لحما ودما ، كان رفيق محمد على يقاسمه الأفكار العظيمة التي جاءت بها رياح العصر فامتلأت بها نفوس المصلحين دون تعصب . لقد عاشوا عصرهم وانخرطوا في أفكاره وقيمه ولم يعقهم كرههم للاستعمار من تبني الأفكار الأوربية الرائعة التي اعتبروها منتهى أحلام الإنسانية في فكر هو اقرب إلى الروح الأممية في عطائها الإنساني بلا حدود .
لقد ختم الطاهر الحداد كتابه وهو يصوغ أحلامه ورؤيته المستقبلية النافذة للأجيال القادمة التي تعطي الأولوية لإصلاح الأوضاع الاجتماعية حتى قبل الدعاية السياسية . إن العمل السياسي في نظره مهما كانت طموحاته مشروعة لا خير يرجى منه إذا كان مجردا من الأعمال الاجتماعية التي تكون بها الأمة شعبا . لقد أراد الطاهر الحداد من خلال كتابه كما يقول هو نفسه أن يجعل منه مثالا من أمثلة النهوض الاجتماعي والوعي العمالي وفهم الطريقة التي قوبل بها نضال العمال من قبل السلطة الاستعمارية، ولكن أيضا من قبل الأحزاب حتى يعدل الطرفان من برامجهم إذا ما طمحوا إلى التعاون والتكاتف . كان الطاهر الحداد واضحا أشد الوضوح في هذا الإيمان بالإصلاح فهو الذي يقول في خاتمة كتابه .
"من رأيي أن تسبق الحركات الاجتماعية، وبالأخصّ الاقتصادية منها، دعاية عامّة تشرح حقيقتها وأصول أعمالها وواجب عموم الشعب فيها، وتطهّر أوساطه من جراثيم الأفكار القاتلة. " تلك الافكار المتخلفة المنتشرة في نفوس التونسيين والتي ذكرنا البعض منها .هي أفكار تعوقهم عن أي تقدم و تقف عثرة أمامهم إذا ما راموا مسايرة الشعوب الناهضة .
العمل النقابي المبكر مفخرة لتونس
لقد كان التونسيون بفعل عوامل متضافرة سباقين إلى اكتشاف الأفكار النقابية العظمية وخلفياتها التقدمية . كانت نقاباتنا على الدوام عبر كل هياكلها القاعدية والمتوسطة على الخصوص تزخر بأعظم الأفكار والمبادئ، تلك التي تنادي بالكرامة، والعدل، والمساواة، والحرية. فاختلط في نفوسهم منذ البداية الولاء للعمل والدفاع عن العمال، ولكن الولاء للوطن والدفاع عنه . ذلك إبداع تونسي سيرتسم على الدوام في قلب العمل النقابي وروحه ليختلط الوطني السياسي بالنقابي .
تشهد على ذلك كما قلنا في البداية معالم التاريخ وذلك ما علمتنا إياه الأيام والشدائد على تعاقبها . فما أعظم الاتحاد العام التونسي للشعل اليوم وريث الجامعة والذي لا يخلو أي مقر من مقراته من صورة محمد علي الحامي وهو يقف جنبا إلى جنب مع رفاقه الذين لم يعرفهم فرحات حشاد وأحمد التليلي والحبيب عاشور .
ما أعظمه حين يجسد بحضوره هذا العطاء الوطني وهذه الروح التي لا تموت والتي آمنت بها نختنا النيرة فرشحته لنيل جائزة نوبل للسلام من اجل دوره في إحلال السلام في تونس وفي العالم بأسره .قد يرى البعض في ذلك كل عيوب الخلط بين السياسي والنقابي وكل مساوئ الانحراف عن حدود العمل الاجتماعي .ولكن تلك عبقرية العمل النقابي في تونس في أحلامه التقدمية التي جسدها على الدوام المناضلون المخلصون من كل المشارب فالنقابات تحتضن الجميع وهي ملاذ الجميع حين يشذ الملاذ ويعز الخلاص من براثن الاستبداد البغيض .