العام الدراسي التونسي مشرف على نهايته، صدرت نتائج البكالوريا (الثانوية العامة) وفرحت الأسر وتفاخرت بمعدلات الأولاد في الامتحان الوطني، ودخل الأبناء معركة التوجيه الجامعي وأي الجامعات يختارون وأي التخصصات يتبعون، وعلى لسان أغلب الأسر جملة واحدة: كيف ننقذ أولادنا بدراسة خارج البلد. وهذا موضوع يستحق العودة، لكني سأتحدث عن موضوع مواز محاولا تلمس معالم الشخصية التونسية التي صنعتها المدرسة التونسية، فخر التونسيين وتباهيهم على العرب خاصة.
منذ ستين عاما يختبر تلاميذ الآداب في نص واحد كتبه وزير التربية السابق محمود المسعدي.. ثلاثة أجيال تقريبا (الجدة والأم والحفيدة) مرت باختبار واحد كُتب زمن التهويم الوجودي العدمي الذي أعقب الحرب العالمية الثانية.
محمود المسعدي وثن تونسي
هو مثقف جمع بين التعليم الصادقي (نسبة إلى المدرسة الصادقية) ودراسة الفلسفة والآداب في الجامعة الفرنسية في الأربعينات. يعتبر من مؤسسي الاتحاد العام التونسي للشغل الذين انحازوا للصف البورقيبي إبان فتنة الاستقلال الداخلي (وهو موقف النقابة). كلفه بورقيبة بإدارة الشأن الثقافي في الستينات، فكان منتجه الأبرز تحويل الثقافة الشعبية إلى فلكلور سياحي (فرقة الفنون الشعبية) وصناعة ما سمي بالرقص التونسي. في السبعينات تم إقصاء آخر مثقف زيتوني من وزارة التربية، وهو محمد الأمين الشابي (ابن الشاعر الكبير أبو القاسم الشابي)، وكلف بالوزارة محمود المسعدي، فنفذ عملية "إصلاح" تقوم على أولوية التعليم بالفرنسية.
كتب المسعدي نصين كبيرين هما (رواية تجريبية عنوانها "حدّث أبو هريرة قال" ونص آخر على غير جنس معروف سماه "السد")، وله نصوص أخرى أقل أهمية ولم تدخل البرنامج المدرسي. كتب المسعدي بعربية جميلة يخالها القارئ عربية الجزيرة قبل الإسلام، فخلق موجة حنين للأصول (كأنه تيار سلفي لغوي أو أصولية لغوية) ظهرت في نصوص أخرى لغيره حاولت تقليده ببراعة أقل. لكن اللافت أن المسعدي، صاحب اللغة العربية في نصه الخاص، كان يقود عملية إلحاق جذري للمدرسة التونسية بالفرانكفونية (وهو ما لم يقدر عليه المحتل الفرنسي نفسه)، فكأنه كان يعيش في عالمين متناقضين.
ويمكننا الجزم الآن بأن الفقر اللغوي الذي يظهر في لسان التونسي يعود إلى ذلك الإصلاح الذي جعل اللغة العربية محصورة في الأدب القديم، كأنها لغة ميتة تثير السخرية. في أثناء تملكه للوزارة، وضع المسعدي أدبه في قمة البرنامج الدراسي لتلاميذ البكالوريا، ومن يومها يخضع المتعلمون للنص ويُختبرون فيه كأنه النص الوحيد الذي كتب في تونس. وهذا أمر لم يقدر على تغييره حتى محمد مزالي الذي خلفه في وزارة التربية، وهو من خط الأمين الشابي (كان رئيس ديوانه)..
كم من أستاذ لغة عربية درس المسعدي (لا يمكنني تقديم رقم لكن يكفي تخيل أكثر من خمسين عاما من الدرس الواحد في كل المعاهد). لقد بنى الكثير منهم بيوتا جميلة على ضفة المتوسط بنص محمود المسعدي، لذلك تحول النص (وصاحبه) إلى وثن. ولقد سبق لي التدخل في ندوة حول هذا الأثر، فاتُهمت برغبة مرضية في قتل الأب. وكان من اتهم عاش يدرس نص المسعدي حتى تقاعد وعجز.
كيف يمكن بناء مخيال أدبي بنص واحد؟
لم أخض في فحوى نص المسعدي ومصدره الأول؛ الوجودية العدمية التي بثها في المجال الفرانكفوني ألبير كامي الفرنسي، أدب الإحباط الذي ساد في مرحلة ما بعد الحرب الثانية وعمل على التحرر من كل روح رومانسية (رجعية) سادت قبلها. كل الأجيال التونسية مرت من هذا الزاروب الأدبي الضيق، وأُغلقت دونها الآداب العالمية باسم التونسة.
بدعة التونسة (اعتماد نصوص تونسية) ستتكرس في حقبة ابن علي وإصلاح محمد الشرفي، تملصا من كل أصل عربي للأدب التونسي، وستكون وسيلة أخرى لتخليد المسعدي في البرنامج المخصص لشعبة الآداب.
في نصف القرن من هيمنة المسعدي كتب تونسيون نصوصا أخرى وتطور الأدب العالمي، لكن المدرسة ظلت تدور على نفس البرنامج، ولم يجرؤ أي من مدرسي النص على طلب تغيير البرنامج. لقد تحول النص إلى أصل تجاري مريح يقبض منه الكثيرون خبزة باردة.
سؤالنا هو: كيف تفكر أجيال متتابعة (متناسلة من بعضها) في الأدب، وكيف تبني مخيالها وتركب صورة للعالم من حولها إذا كانت كلها لا تعرف إلا نصا واحدا؟ صحيح أنه لا أحد منع أحدا من القراءة خارج البرنامج، لكن عندما يكون التلميذ مدربا على القراءة المفيدة (إتقان النص يعني العلامات الجيدة والنجاح) فإنه من غير المجدي تحريضه على المطالعة غير المنتجة للعلامات.
هذه العلاقة النفعية بالنص الأدبي هي التي أغلقت دون الكثيرين باب تطوير مخيالهم وحشرتهم في الزاروب الرسمي. لقد خرجت المدرسة أجيالا كثيرة متطابقة في تفكيرها وتركب جملا متشابهة.
مدرسة أم ماكينة صناعة دجاج؟
نصف قرن من نص واحد جعل المدرسة التونسية أقرب إلى ماكينة صنع الدجاج، لون واحد وأحجام متطابقة لغرض واحد: وجبة طعام في متناول الفقراء (بعد الانقلاب صار الدجاج وجبة الطبقة الوسطى ويكتفي الفقراء بالنظر إليه في المطاعم، وهذا موضوع آخر).
الشعب المصنوع من مادة واحدة يسهل حكمه والسيطرة عليه؛ لأنه شعب لا يتخيل ولا يبدع خارج القالب المعد له مسبقا. فإذا كان هذا النص يتضمن خلاصات من قبيل أن الشعب يستحق الرحمة ولا يستحق الإيمان بقدرته ("ارحمهم يا كهلان ولا تؤمن بهم" كما في نص المسعدي)، فإن الإحباط يصير غذاء مناسبا له ليكون صنيعة سلطة لا صانعها.
إننا نجد في بعض ما يجري الآن أثرا لمحمود المسعدي.. استهانة الغالبية بقيمة الحرية، والسعي الحثيث إلى الخلاص الفردي، والانكفاء على الذات عند صدور نداءات الحرية.. هي تقريبا نصيحة المسعدي بالخلاص الفردي الذي اتخذه بطله أبو هريرة. هذه الشخصية المنكفئة على ذاتها والخائفة من الشراكة والساعية لمجدها الفردي بقطع النظر عن وسيلته، هي ثمرة نص المسعدي، الوجبة الوحيدة التي أشربها الجميع لخمسين عاما.
نص صار علف دجاج رغم جمال لغته التي تختفي مباشرة بعد النجاح فيتكلم المتعلمون لغة أقرب إلى لغة أهل مالطا فلا هم بلسان عربي مبين ولا بلسان فرنسي سليم مدرسة بنص واحد هي تطبيقة ممتازة لبلد برئيس واحد يرفض الحرية ويسخر من دعاتها ويفضل الوجبة السهلة بلا كفاح.
هل يمكن الخروج من المسعدي؟ لقد أعدم المسعدي قدرة الناس على التفكير خارج نصه، لذلك فان تلاميذه يمنحون مكانة أولى للجان التفكير الفرانكفونية في المحاولات الجارية لإصلاح التعلم العمومي، بموافقة كاملة من النقابة التي أسسها المسعدي.
يشاء القدر أن سمى نصه السد، فكان سدا أمام كل مخيال حر.