علاقتي بالأستاذ حمادي بن جاب الله تعود لسنة 1992 لما درسني الفلسفة الحديثة في السنة الثالثة شعبة عقيدة وفلسفة بالمعهد الأعلى لأصول الدين بمنفلوري. فتح عيني على ديكارت، فقرأت له بالفرنسية مقال الطريقة وتأملات ميتافيزيقية، وعلى كانط، فقرأت له نقد العقل الخالص، وأسس ميتافيزيقا الأخلاق، وتأملات في التربية، ونقد ملكة الحكم، وفتح عيني على الثورة العلمية المتبوعة بالثورة الفلسفية، والتقيته بعد ذلك بسنوات عديدة لما حصلت على شهادة الدكتورا في علوم التربية وشاركت بورقة علمية في ندوة فهم الذات بالمعهد العالي للعلوم الإنسانية، احتفاء بمرور أربعين سنة على التحاق الأستاذ عبد الوهاب بوحديبة بإطار التدريس في الجامعة التونسية، حيث قدمت ورقة بعنوان:
La compréhension du soi cognitif: un projet de changement épistémique à l'école
وقد علق يومها على ورقتي من موقع رئاسة الجلسة العلمية، بعد أن استمع إلي بانتباه بقوله:
Laissez- moi vous dire cher collègue que c'est la première fois que je me sens convaincu que la pédagogie est une science, et ce, à travers ce que vous venez de nous présenter.
وبعد الثورة بسنوات قليلة التقينا في مراكش في ندوة دولية حول التعليم الديني، حيث قدمت دراستي التأسيسية لتعلمية التربية والتفكير الإسلامي، وقد تم اعتمادها والمصادقة عليها من لجنة يترأسها الدكتور حمادي بن جاب الله نفسه، لما لمس فيها من تأصيل علمي متين، وكان من أعضائها الدكتور احميده النيفر، ونشرت لاحقا في كتاب جمع أشغال تلك الندوة. وآخر مناسبة التقينا فيها كانت في ندوة المثقف والثورة التي نظمها مهرجان قابس الدولي منذ بضع سنوات، وحينها علق الأستاذ حمادي بن جاب الله وكان في تلك المرة أيضا رئيسا للجلسة العلمية:"ما تركت لنا من شيء نقوله بعد هذا الذي طرحته فقد جاء قولك جامعا مانعا".
فيمكن القول إجمالا أن علاقتنا العلمية كانت طيبة يسودها الاحترام والتقدير المتبادل مع حفظ المقامات لصالح أساتذتنا دائما.
لكني سأوجه القول هذه المرة لسي حمادي خارج الإطار الأكاديمي والثقافي، وإنما في الإطار المدني المواطني.
استمعت اليوم في الإذاعة الوطنية لحوار مع سي حمادي بن جاب الله في برنامج "مجرد سؤال" حول رأيه في دستور قيس سعيد، فوضح أنه قد قاطع لجنة الحوار الوطني واتخذ موقفا سلبيا من أداء قيس سعيد بعد أن أصيب بخيبة أمل في طريقة تعاطيه مع مسار 25 جويلية الذي سبق له أن استبشر به واعتبره بادرة وطنية طيبة من أجل تحرير البلاد مما سماه "الاستعمار الداخلي"، ويقصد به الاسلاميين (الخوانجية). وكان قبلها قد صفق وهلل لقائدة التنوير الحداثي بتونس السيدة عبير موسي زعيمة الحزب الدستوري الحر. والآن يشعر سي حمادي بالأسى والخيبة لأن ما كان يمكن أن يحصل في ثلاثة أشهر وينتهي كل شيء، لم يحصل على حد تعبيره. والمقصود بذلك استئصال الإسلاميين ودكهم في السجون أو إلقائهم في البحر أو نفيهم إلى جزر الهولولو.
حقيقة صدمت لسماع عبارة "الاستعمار الداخلي" (بشرحها الذي ذكرته) للمرة الثانية في غضون أشهر قليلة تجري على لسان سي حمادي بن جاب الله. فسي حمادي لا يهمه الاستعمار الخارجي الفرنسي للبلاد التونسية منذ سنة 1881، فهو على ما يبدو على مذهب قيس سعيد في القول بالحماية لا بالاحتلال وهو بالتأكيد مبتهج وممتن لفضل فرنسا الكولونيالية على تونس في نشر قيم فلسفة الأنوار فيها، في حين أنها تكرس القيم المعاكسة لها تماما في بلدنا، حيث تحمي الدكتاتورية مقابل الحرية والديمقراطية وتكرس العنصرية والعجرفة الكولونيالية بدل قيمة الأخوة التي توجد في شعار الفرنسية وتكرس القهر والنهب بدل العدالة والإنصاف.
سي حمادي إن ما تعتبره استعمارا داخليا هو بمنطق فلسفة ما بعد الحداثة اختلاف وتعدد، وحله يكون في المشترك الوطني والتعايش، ولكن بما أنك من عشاق الكوجيتو الديكارتي فإنك لم تتوقف عند قولة ميشال سار:
"Le cogito cartésien est une formule de guerre".
لماذ يعتبر الكوجيتو الديكارتي إعلان حرب؟لأنه ببساطة يكرس المركزية الأوروبية (سيد الطبيعة ومالكها، لا شريكا فيها مع الآخرين) والنزعة الكولونيالية.
سامحني سي حمادي أنت فيلسوف الدكتاتورية، والدكتاتورية حليفة الاستعمار وناشرة الاستحمار لا الحداثة والأنوار.
مؤسف جدا أن تفتقد في هذه القضية للحكمة وأنت تتصدر المنابر الجامعية منذ عقود لجعلنا نحبها، فالفلسفة هي محبة الحكمة. كان بإمكانك أن تعلمنا كيف نمارس النقد والنقد الذاتي وكيف نقبل بالاختلاف والتعدد وكيف نتعايش وكيف نصارع الخصم بقوة الفكر لا بفكرة القوة، لكنك وقعت فيما شخصته لنا ذات مرة على لسان ديكارت بكل ألمعية، لما كررت على مسامعنا جوابه على سؤال طرح عليه وهو: إذا كان الحس (أو العقل) السليم أعدل الأشياء قسمة بين الناس، فمن أين يأتي الخطأ إذن؟ فكان جواب ديكارت: "من الإرادة" يقصد بذلك الإرادة الحرة التي تختار أن تعصي أوامر العقل وتلبي داعي الهوى.